القديس كيرلس الاورشليمي - ترجمة د جورج عوض
سمِع الربُ طلبة الأنبياء. لم يهمل الآب جنسنا الهالك، بل أرسل ابنه، الرب من السماء كطبيب لكي يشفينا[1]. وقال أحد الأنبياء " يأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه" (ملا 31: 1)، لقد أتى الرب إلى هيكله حيث حاول اليهود أن يرجموه (راجع يو 8: 59). وعندما سمع نبي آخر هذا الكلام، فكأنه يقول للنبي أتعلن خلاص الله وتقول هذا الأمر هكذا بهدوء تام؟ أتحمل بشارة مجيء الله للخلاص وتتحدث بها في الخفاء؟
"على جبل عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون. ارفعي صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم. ارفعي لا تخافي. قولي لمدن يهوذا هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي..." (أش 40: 9، 10).
أيضًا الرب نفسه يقول " هاأنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب. فتتصل أمم كثيرة بالرب" (زك 2: 10، 11). لكن بني إسرائيل رفضوا خلاصي الذي قدمته لهم، ولذلك "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة فيأتون ويرون مجدي" (انظر إش 66: 18). لأنه " جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله" (يو 1: 11)، وما الذي تمنحه للأمم عندما تأتي؟ يقول: " أجعل فيهم آية" (أش 66: 19)، لأني بينما أنا أتألم فوق الصليب، أعطي لكل واحد من جنودي، أعطي ختمًا ملكيًا لكي يحمله على جبينه. ونبي آخر قال " طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه" (مز 18: 9)، لأن، نزوله من السماء لم يكن معروفًا للبشر.
بعدما سمع سليمان أباه داود يقول هذه الأقوال، بني هيكلاً عظيماً، وهو يرى مسبقاً ذاك الذي سوف يأتي إلى هذا الهيكل، وقال مندهشاً "هل يسكن الله حقاً على الأرض؟"، تنبأ داود في المزمور المُعطى لـ "سليمان": " ينزل مثل المطر على الجزاز مثل الغيوث الذارفة على الأرض" (مز 72: 6).
يقول "مثل المطر" إشارةً إلى أنه سماويٌ، بينما "على الجزاز" يشير إلى بشريته. ولأن المطر يقع على الجزاز بدون صوت، هكذا سرُ الميلاد كان غير معروفٍ، لذا يسأل المجوس " أين وُلد ملك اليهود؟" (مت 2: 2) وهيرودس يسأل وهو مضطرب عن ولادته قائلاً " أين يُولد المسيح" (مت 2: 4).
لكن مَنْ هو هذا الذي ينزل؟ يقول في المزمور " يخشونك مادامت الشمس وقدام القمر إلى دور فدور" (مز 72: 5). ويقول نبيٌ آخر أيضاً: " ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومخلّص" (انظر زك 9: 9س).
الملك الوديع:
أشرح لي أيها النبي عن أي ملكٍ تتحدث فالملوك كثيرون؟ أعطِ لنا علامةً تميز الملك الذي تتحدث عن مجيئه. إن كنت تتحدث عن الملك الذي يلبس الأرجوان، فالآخرون قد أخذوا قبله هذه الكرامة. وإذا كنت تتحدث عن شخص يحرسه الجنود ويجلس فوق مركبة ذهبية، فهذا أيضاً قد صار لآخرين. أعطنا علامةً خاصةً للملك الذي تعلن لنا عن مجيئه. يجيب النبي قائلاً: "هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومخلّص، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" وليس على مركبة. هذه علامةٌ فريدةٌ للملك الذي أتى. الرب يسوع هو الوحيد بين الملوك الذي جلس على جحشٍ ابن أتان، ودخل أورشليم بهتاف كملك (راجع مت 21: 7)، وماذا يفعل هذا الملك عندما يأتي؟ يقول النبي: " وأنت أيضاً فإني بدم عهدك قد أطلقت أسراك من الجب الذي ليس فيه ماء" (زك 9: 11).
وربما يحدث أن يجلس ملكٌ على جحش، لكن أعطني بالحري علامة أخرى، تدلنا على المكان الذي سوف يقف فيه الملك عندما يدخل المدينة. أظهر لنا المكان الذي يكون غير بعيد عن المدينة، حتى يمكننا أن نعرفه، أعطنا علامة واضحة يمكن أن نراها بالأعين، لكي نستطيع أن نرى المكان حتى عندما نكون في المدينة. يجيب النبي أيضاً قائلاً " وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم من الشرق" (زك 14: 4)، هكذا يكون في إمكان المرء الواقف في وسط المدينة أن يرى المكان؟[2]
الملك صانع المعجزات:
الآن عندنا علامتين، نريد أن نعرف الثالثة. أخبرني ماذا سيفعل الرب عندما يأتي؟ يقول نبي آخر: " هو يأتي ويخلصنا. حينئذٍ تنفتح عيون العمى وآذان الصم تتفتح. حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيل ويترنم لسان الأخرس" (إش 35: 4ـ6). قُل لي شهادةً أخرى أيها النبي، فأنت تقول لنا إن الرب الآتي سيصنع معجزات لم تحدث قبل ذلك أبداً (انظر يو 15: 24). أي معجزة أخرى بارزة تريد أن تخبرنا بها؟ يقول النبي: " الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 4: 14)، هذه هي العلامة البارزة، السيد احتمل الآلام وحُكِمَ عليه من عبيده شيوخ الشعب.
صار مثلنا لكي نستحق أن نتمتع به:
وبالرغم من أن اليهود كانوا يقرأون كل هذه الشهادات، لكنهم لم يسمعوا؛ لأنهم أغلقوا آذان قلوبهم حتى لا يسمعوا. أما نحن فنؤمن بيسوع المسيح الذي أخذ جسداً وصار إنساناً، لأننا بغير ذلك لا يمكننا أن نعرفه ونقبله، فنحن ولا نستطيع أن نراه ونتمتع به كما هو (قبل التجسد)، ولذلك صار كما نحن حتى يسمح لنا أن نتمتع به. لأنه، إن كُنا لا نستطيع أن نرى الشمس، التي خُلقت في اليوم الرابع، فهل نستطيع أن نرى الله خالق الشمس؟ لقد نزل الله على جبل سيناء في لهيب نار ولم يستطع الشعب أن يتحمل رؤيته وقالوا لموسى: " تكلم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر 20: 19). وأيضاً " لأنه مَنْ هو مِن جميع البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلّم من وسط النار مثلنا وعاش" (تث 5: 26). فإن كان الإنسان يموت بمجرد أن يسمع صوت الله، فكيف يمكن أن يرى الله نفسه، ألا يتسبب هذا في موته؟ ولماذا تنتابك الدهشة؟ إن موسى نفسه يقول " أنا مرتعب ومرتعد" (انظر عب 12: 21).
إذاً ماذا تريد؟ هل تريد أن يصير هذا الذي أتى لكي يقدم لنا الخلاص سبباً للموت؛ لأن البشر لا يتحملونه، أم أن يقدم لنا النعمة بالقدر الذي يمكننا أن نقبلها؟ فإن كان دانيال لم يتحمل رؤية ملاك، هل يمكنك أنت أن تحتمل مشهد رب الملائكة؟ لقد سقط دانيال على الأرض عندما ظهر له جبرائيل الملاك (انظر دا 10: 9). وكيف ظهر الملاك وبأي شكل؟ يقول: "جسمه كالزبرجد ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحي نار وذراعاه ورجلاه كعين النحاس المصقول وصوت كلامه كصوت جمهور" (دا 10: 6). إن صوته ليس مثل صوت اثني عشرة طغمة من الملائكة، وبالرغم من ذلك سقط النبي على الأرض. واقترب منه الملاك وقال له: " لا تخف يا دانيال... سُمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك" (دا 10: 12)، وقال دانيال: " قمت مرتعدًا " (دا 10: 11).
وهكذا، عندما ظهر الملاك بشكل إنسان، عندئذٍ تحدث دانيال. فماذا قال؟ " يا سيدي بالرؤيا انقلبت علىَّ أوجاعي فما ضبطت قوة" (دا 10: 16)، فإن كان بظهور ملاك قد تلاشى صوت النبي وقوته، فهل تبقى فيه نفس بظهور الله؟! وكما يقول الكتاب " فعاد ولمسني كمنظر إنسان وقواني" (دا 10: 18)، إذاً، فطالما اختُبِرت طبيعتنا البشرية، وظهر مدى ضعفنا، أخذ الرب على عاتقه أن يمنح الإنسان ما يحتاجه. فلأن الإنسان يريد أن يسمع إنساناً له نفس الشكل مثله، صار المخلصُ إنساناً، لكي يستطيع البشر بسهولة أن ينالوا الخلاص.
[1] يشرح القداس الباسيلي ذلك بقوله: "لم تتركنا عنك أيضاً إلى الانقضاء، بل تعهدتنا دائماً بأنبيائك القديسين، وفي آخر الأيام ظهرت لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت بابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح".
[2] يبدو جبل الزيتون ظاهراً جداً من أورشليم، وخاصة من جبل الجلجثة حيث كان كيرلس الأورشليمي يلقي عظاته.