السبت، 29 مارس 2014

ليس لي إنسان


ليس لي إنسان :(عظة 37) للقديس يوحنا ذهبي الفم على معجزة شفاء المخلع
ترجمة د.جورج عوض إبراهيم
”هذا رآه يسوع ... فقال له أتريد أن تبرأ. أجابه المريض يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء. بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامي آخر. فقال له يسوع  قم. احمل سريرك وأمش”
(يو5: 6ـ8)


الكتب المقدسة عزاؤنا
          إن ربحنا من الكتب المقدسة هو ربح عظيم، وفائدتها لنا كبيرة. وهذا ما أراد أن يظهره بولس حين قال: " لأن كل ما سبق فكُتِبَ، كُتِبَ لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاءٌ" (رو5: 1ـ4). فالكتب المقدسة هي كنـز من الأدوية، بحيث لو احتاج أحدٌ أن ينزع الغيرة والحسد، أو أن يخمد الشهوة ويدوس على حب المال ويحتقر الألم، ويهيئ نفسه ويتحلى بالصبر ويتزين بالفرح، فإنه سيجد فى الكتب المقدسة علاجًا عظيمًا لكل هذه.
          لأنه مَنْ من أولئك الذين يصارعون دائمًا مع الفقر، أو مِن أولئك الذين يعانون مرضًا عضالاً لا يأخذ عزاءً كبيرًا من قراءة مقطع الإنجيل المذكور أعلاه؟ لأن هذا المريض ظل ثمان وثلاثون سنةً مشلولاً وكل عام يرى الآخرين يشفون، بينما ما يزال المرض جاثمًا على صدره، لكن بالرغم من كل هذا لم يفقد شجاعته ولم ييأس. ولكن الحزن على ما فات، وغياب الرجاء في المستقبل كان يمكن أن يزعزعانه.

ليس لى إنسان
          إذن اسمع ماذا يقول وتأمَّل حجم مأساته. فعندما سأله المسيح:     " أتريد أن تبرأ؟"، أجاب: " يا سيد ليس لي إنسانٌ يلقيني في البِركة متى تحرك الماء". ما الذي يمكن أن يوجد أسوأ من هذه الأقوال؟ أي مصيبة كبيرة هذه؟ هل رأيت نفسًا سُحقت من المرض الدائم؟ هل رأيت قدرته على كبح جماح الغضب؟ فهو لم يتفوه بأي تجديف من تلك التي نسمعها في مثل هذه الحالات. لم يلعن يومه، لم يسأل سؤالاً لا يليق، ولا قال لقد أتيت لتخدعني وتسخر مني لأنك تسألني هل أريد أن أبرأ؟ لكنه أجاب بهدوء واعتدال عظيم: " نعم يا سيد" ولم يكن يعرف مَنْ هو الذى كان يسأله، ولا إن كان سوف يشفيه، لكنه يتكلّم بهدوء ولا يطلب شيئًا، كمن يتحدث مع الطبيب ويريد فقط أن يشرح مرضه. لأنه ربما كان يرجو أن يكون المسيح له مفيدًا في هذا، أي أن يلقيه في الماء، وأراد بهذه الأقوال أن يدعوه ليفعل ذلك. ماذا فعل المسيح؟ بما أن المسيح يستطيع دومًا أن يفعل كل شيء بكلمة، قال له: " قم. احمل سريرك وامشِ" (يو5: 8).

بين المخلع والمفلوج
          كان البعض قد ظن أن هذا المشلول هو نفسه المشلول الذي ذكر في نص متى الإنجيلي[1] لكن ليس هو نفسه. وهذا يبدو من كثير من الأدلة والشواهد:
أولاً: يبدو هذا من عدم وجود من يعتني به، بعكس المفلوج فى إنجيل متى التف حوله كثيرون يعتنون به ونقلوه، بينما هذا ليس له أحد. لذلك قال: " ليس لي إنسان".
ثانيًا: يظهر ذلك من الإجابة؛ لأن مفلوج "إنجيل متى" لا يقول شيئًا، لكن المشلول هنا يعرض كل ما عنده.
وثالثًا: يظهر من الزمن (أي زمن تتميم المعجزة)؛ لأن هذا يشفي هنا في يوم عيد، اقصد السبت، بينما الآخر في يوم آخر. كما أن مكان كل منهما مختلف. الواحد شفي في بيت، والآخر بالقرب من البِركة.
          أيضًا طريقة الشفاء مختلفة: لأن المسيح يقول "لمفلوج متى":      " يا بني مغفورة لك خطاياك" (مت9: 2). أما هنا فيشفي الجسد أولاً، ومن ثم يعتني بالنفس. ففي الحالة الأولى يعطي الصفح ويقول: "مغفورة لك خطاياك"، أمَّا هنا في هذه الحالة فيعطي نصيحةً وتحذيرًا لكى يؤمِّن المشلول في المستقبل؛ لأن المسيح قال له: " لا تعد تخطئ لئلا يكون لك أشر".

يسوع يقود إلى الإيمان
          وقد استتبع ذلك اختلاف اتهامات اليهود؛ ففي هذه الحالة يتهمونه بأنه عمل يوم السبت، بينما في الحالة الأخرى اتهموه بأنه قد جدَّف. لعلك تلاحظ حكمة الله الفائقة، فهو لم يُقِم المشلول مباشرةً، لكن هو تآلف معه بالسؤال أولاً، لكي يفتح له طريقًا للإيمان بعد ذلك، وهو لم يقمه فقط، بل أمره أن يحمل سريره حتى يؤكد حدوث المعجزة، فلا يستطيع أحد أن يشك أنها قد حدثت بالفعل، أو أنها نتاج خيال وضلال؛ لأنه لو أن أعضاء الجسد لم تكتسب الثبات والقوة ما كان المشلول قد استطاع أن يحمل السرير.
          مرات كثيرة يفعل المسيح ذلك لكي يسد أفواه هؤلاء الذين يريدون أن يشوهونه بأقوالٍ سيئةٍ.ففي معجزة الخبزات، حَرِصَ على أن يجمعوا الفائض الكثير من الخبز، حتى لا يقول أحد إنَّ الناس شبعوا، لأنهم تخيّلوا ذلك.
          وقال للأبرص الذي طهَّره: " اذهب أرِ نفسك للكاهن" (مت8: 4) لكي يجعل برهان الشفاء واضحًا وثابتًا لكي يغلق أفواه الوقحين الذين يزعمون أنه يعمل ضد وصايا الله. وقد فعل نفس الأمر أيضًا عندما حوَّل الماء إلى خمر؛ لأنه لم يُظهر فقط الخمر، لكن حَرِصَ على أن يعطيه لرئيس المتكأ حتى يعترف ذاك أنه لم يكن يعرف ما كان قد حدث، حتى يعطي شهادته دون أية شبهة أو تشكيك، لذلك قال الإنجيلي، إن رئيس المتكأ لم يعرف من أين جاء هذا الخمر موضحًا بهذه الطريقة صدق شهادته. وفي حالة أخرى، حيث أقام (ابنة يايرس)، قال أعطوها لتأكل (لو8: 55)، لكي يعطي دليلاً غير قابلٍ للشك أنها قامت. لقد حاول أن يقنع هؤلاء الأغبياء أنه لم يكن مضلاً، أو مجرد صانع للمعجزات مثل السابقين، لكنه أتى لخلاص كل البشر.
          لكن لماذا لم يطلب إيمانًا من المشلول كما فعل مع الأعميان الذين قال لهما: " أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟" (مت9: 28). لأن المشلول لم يكن يعرف أبدًا أنه هو المسيح. إضافةً إلى أن الرب اعتاد أن يفعل ذلك بعد المعجزات لا قبلها. لأن أولئك الذين رأوا قوته في حالات أخرى، كانوا قد سمعوه قبل المعجزات. أما الذين لم يعرفوه أبدًا، لكن كان لهم أن يتعلموا من معجزاته، هؤلاء دُعوا إلى الإيمان بعد المعجزات. لذلك لم يذكر متى الإنجيلي أن المسيحَ قال هذه الأقوال في بداية المعجزات، لكن شفى كثيرين أولاً، ثم قال هذا للأعميين.
          لكن لعلك تلاحظ إيمان هذا المشلول. لأنه عندما سمع: احمل سريرك وامشِ، لم يسخر، ولا قال ما هذا الذي تقوله؟ عندما ينزل ملاك ويحرِّك الماء ويشفى واحد فقط، وتجيء أنت، وأنت إنسانٌ تظن أنك تستطيع أن تنجز شيئًا أكثر مما يفعله الملاك، بمجرد كلمة منك؟ لم يقل أي قول من هذه الأقوال السخيفة التي تستحق السخرية. بل ولم يطرأ شيء من ذلك على فكره، بل أطاع مباشرةً وقام. وإذ صار معافى أطاع أمر السيد: " فحالاً برئ الإنسان وحمل سريره ومشى" (يو5: 9).

شهادة حية
          إن هذا الأمر لجديرٌ بالإعجاب، لكن ما هو أكثر جدارة، ما قد تم بعد ذلك.
على أن الأمر لم يكن يستحق هذا القدر من الإعجاب ـ غالبًا ـ لو كان المشلول في البداية ـ على الأقل ـ آمن بالمسيح دون أن يزعجه أحدٌ. لكنى اعتقد أنه أظهر شجاعةً عظيمةً، إذ بعد المعجزة، بينما هاجمه اليهود وأهانوه، واتهموه وحاصروه قائلين: " لا يحل لك أن تحمل سريرك"، عندئذٍ لم يحتقر جنونهم فقط، لكن بشجاعة عظيمةٍ وفي وسط مسرح الأحداث أعلن شفاءه على رؤؤس الأشهاد وأخرس ألسنتهم الوقحة، الأمر الذي بحسب رأيي يظهر رجولةً وشجاعةً عظيمةً.
          عندما اجتمع اليهود وقالوا للمشلول بوقاحة: " إنه سبت، لا يحل لك أن تحمل سريرك"، اسمع ماذا أجاب: " الذي أبرأني هو قال لي احمل سريرك وامشِ"، وكأن لسان حاله يقول لهم أنتم تثرثرون بحماقة عندما تأمروني أن لا أقدِّر مَن أنقذني من مرضي المزمن، وتريدون أن لا أطيع وصاياه. في الوقت الذي كان يمكنه أن يسيء التصرف، ويعبّر عن الأمر بطريقة مختلفة، كأن يقول: لم أفعل هذا بإرادتي، لكن أمرني آخر. إن كان هذا (حمل السرير) خطية، فأدينوا هذا الذي أمرني ألاَّ أترك سريري مكانه. فهو يعرف جيدًا أن اليهود لا يفعلون شيئًا فيه نقض للسبت، حتى وإن كان ذلك للشفاء من المرض.
          ولكنه لم يُخفِ شفاءه، ولا نطق بمثل تلك الأقوال التي أشرنا إليها، ولا طلب صفحًا، لكن بصوت عالٍ اعترف وأعلن شفاءه. هذا ما فعله المشلول. على الجانب الآخر، لاحظ مقدار الكفر الذي تصرف به اليهود؛ لأنهم لم يسألوه مَن هو الذى شفاك، بل صمتوا بشأن هذا الأمر، لكن أحضروا بجرأة كبيرة المخالفة الظاهرة (جسم الجريمة) في الوسط للتشنيع والاصطياد في الماء العكر وسألوه: "مَنْ هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وأمشِ. أمَّا الذي شفي فلم يعرف من هو. لأن يسوع اعتزل، إذ كان في الموضع جمع" (يو5: 12ـ13).
          لماذا اختفى المسيح؟ أولاً حتى لا يكون هناك أى شبهة من جهة حدوث المعجزة؛ لأن المشلول طالما شعر بأنه قد استعاد عافيته، كان شاهدًا حسنًا لقوة المخلص. وحتى لا تشتعل في نفوس اليهود أحقاد كبيرة؛ لأنه كان يعرف أن حضور هذا الرجل الذي شُفي يسبب حقدًا، وشرارة غضبٍ كبيرة في نفوس الحاقدين. لذلك اختفى عنهم لكي يترك عمله المعجزي (المشلول المعافى) يصارعهم، فلا يكتفي في نفسه بما حدث، بل يتناقش الذي شُفي مع مَنْ يشتكون عليه ويتهمونه.

شهادة الأعداء
          ويجب أن نلاحظ أيضًا أن الذين يشتكون عليه يعطون شهادةً للمعجزة. لأنهم لم يقولوا له لماذا تقصد أن يصير هذا يوم السبت، لكنهم قالوا لماذا فعلت كل هذا في يوم السبت. ليس لأن الأمر يتعلق بالمخالفة، لكن لأنهم يحسدونه من أجل خلاص المشلول. إن ما فعله المسيح كان فقط مجرد قول. وهو بهذا يأمر بإبطال السبت. لكن في حالة أخرى يقوم هو بنفسه بهذا العمل، حيث صنع من التفل طينًا ووضعه على العينين. وهو بهذا لم يخالف الناموس، بل تخطى الناموس، لكننا سنتكلم عن هذه الأمور فيما بعد. لكن يجب أن نلاحظ بدقة أنه لا يدافع بنفس الأقوال عندما يتهم بكسر السبت.
          ليتنا نرى ما تنطوي عليه الكراهية من شر رهيب، وكيف أنها تعمي أعين نفس مَن يمقت وتدمره؛ لأنه كما يحدث في كثير من المرات يوجه المهوسون سيفهم ضد ذواتهم، هكذا الكارهون فإنهم  يهدفون إلى إبادة أولئك الذين يكرهونهم، ويتصرفون نحوهم بطريقة غير عاقلة، هؤلاء هم أكثر سوءًا من الوحوش؛ لأن الوحوش تهاجمنا بسبب احتياجها للطعام، أو لأننا سبقنا وتسببنا في هياجهم، لكن هؤلاء، بالرغم من إحساناتنا نحوهم، إلاَّ أنهم يعتبروننا أعداء.
          إذن هؤلاء هم أسوء من الوحوش، هم أشبه بالشياطين، وربما أسوء منهم . لأن الشياطين، وإن كانت عداوتهم ضدنا شديدة، لكن لا يتآمرون بنفس طريقتهم. وعندما قال المسيح إن كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب، فقد سد بهذه الأقوال أفواه اليهود عندما زعموا أنه بقوة بعلزبول يُخرج الشياطين. لكن هؤلاء لا يحترمون السير الطبيعي للأمور، ولا يأسفون على ذواتهم؛ لأنهم بسبب البغضة يُؤذون أنفسهم؛ لأنهم ممتلئون من كل تشويش وضيق.

احذروا من خطية الكراهية
          لماذا تغتم أيها الإنسان بسبب خيرات قريبك؟ إن ما يجب أن تغتم لأجله هو الشرور التي نعاني منها، وليس لأننا نرى الآخرين يعيشون في سعادة. لذلك، لا مغفرة لهذه لخطية. لأن الزاني تحركه شهوته، والسارق يدفعه الفقر، والقاتل يحرضه الغضب. وإن كان هؤلاء عديمي الإحساس وفاقدي العقل، إلاَّ أنهم يقدمون بعض المبرارات لما يفعلونه، أمَّا أنت، فأيُ مبررٍ تقدم؟ لا يوجد أي مبرر على الإطلاق إلاَّ الخبث الشديد. لأننا إن كنا قد أُمرنا أن نحب أعدائنا، فعندما نكره من يحبوننا، فأي عقاب نستحقه؟ وإن كان من يحب أصدقاءه فقط لا يختلف عن عابدي الأصنام، فمن يؤذي هؤلاء الذين لم يدينوه أي غفران يناله؟ أي عزاء؟ اسمع ماذا قال بولس:    " وإن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة فلا انتفع شيئًا" (1كو13: 3). إذن، يتضح لنا تمامًا أنه حيث يوجد حسد وكراهية، فإن المحبة تختفي تمامًا. إن خطية الكراهية أسوء من الزنا والدعارة؛ لأن هذه الخطية (أى الزنا) تخص الشخص المصاب بها، لكن سطوة الكراهية تهيِّج كل الكنيسة وتؤذي كل المسكونة. إنها أُم القتل. هكذا قتل قايين أخيه، وأفسدت علاقة عيسو مع يعقوب، وأخوة يوسف مع يوسف والشيطان مع البشر.
          وإن كنت الآن لم تقتل، إلاَّ أنك تفعل أمورًا أخرى أسوأ من القتل، فطالما تتمنى أن تشوه أخيك فتنصب له شباكًا، وطالما تشرع في أعمال مشبوهة ضد الفضيلة، وطالما تغتم بكل ما يسر رب المسكونة، فأنت بالتالي لا تحارب من شُفى، بل من شَفىَ. وتحط من كرامتك بالإساءة إلى كرامته. والأسوأ من كل ذلك هو أنك تعتبر خطيتك صغيرة، بينما هي أثقل من الكل. لأنه بالرغم من أنك تفعل الإحسان وتسهر وتصوم إلاَّ أنك أكثر جرمًا من الكل لأنك تحقد على أخيك. وهذا يظهر من الآتي: في مرة زنى شخص في كورنثوس، لكنه عندما أُدين صار عفيفًا، لكن قايين حقد على أخيه، ولم يُشفَ من الحقد، وبالرغم من أن الله ذكَّره بالجرح، إلاَّ أنه تألم وغضب أكثر، وجهز لجريمة القتل.
          هذا إذن هو خطر الكراهية الذي هو أثقل من الخطأ السابق (الزنا)، وهو داء لا يستجيب بسهولة للعلاج إن لم ننتبه.
          دعونا إذن أن نقلع هذا الخطأ من جذوره واضعين في حسابنا أننا نخطئ إلى الله عندما نحترق من الكراهية لأجل خيرات الآخرين. هكذا نصير مقبولين عنده حين نفرح ونشترك مع ذاك الذي نال الصالحات باستقامة. لذلك ينصح بولس قائلاً: " فرحًا مع الفرحين، وبكاءً مع الباكين" (رو12: 15)، لكي نستمتع بفائدة عظيمة.
          إذن، طالما ندرك أننا وإن كنا لم نتعب، لكن عندما نفرح مع ذاك الذي يتعب ونتقاسم معه الأكاليل دعونا نطرد أي كراهية، ودعونا نزرع في نفوسنا المحبة حيث نتهلل ونفرح من أجل مسرات أخوتنا لكي ننال الخيرات الحاضرة والمستقبلة بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان إلى أبد الآبدين آمين.


[1] يقصد القديس يوحنا ذهبي الفم معجزة شفاء المفلوج الذي دلاه أصدقاؤه من فتحة السقف (انظر مت9).

الأحد، 23 مارس 2014

لا في هذا الجبل ولا في أورشليم



لا في هذا الجبل ولا في أورشليم
القديس يوحنا ذهبي الفم في تفسيره لإنجيل يوحنا
ترجمة د.جورج عوض
قال لها يسوع يا امرأة  صدقيني أنه تأتي ساعة  لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أمَّا نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق ” (يو4: 21 ـ 23)

الإيمان مصدر الصالحات
      1ـ أيها الأحباء، نحن دائما في احتياج للإيمان؛ لأن الإيمان هو مصدر الخيرات ودواء الخلاص. بدونه لا نستطيع أن نفهم التعاليم الإيمانية. إن من يشرعون في عبور البحر دون سفينة، يستطيعون السباحة قليلاً مستخدمين الأيدي والأرجل، لكن بعدما يتقدمون بعيدًا سرعان ما يغوصون في الأعماق بسبب الأمواج، هكذا أولئك الذين، قبل أن يتعلموا شيئًا ـ يستخدمون تأملاتهم الخاصة، إنهم هؤلاء الذين قال لهم بولس  " هؤلاء ينكسر بهم السفينة من جهة الإيمان".
      وحتى لا نتعرّض نحن لهذا الأمر، ليتنا نمسك بالمرساة المقدسة، التي بواسطتها قاد يسوع الآن المرأة السامرية. فعندما سألته: " أنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه"، قال لها يسوع: "يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب". لقد كشف المسيح لها تعليمًا إيمانيًا عظيمًا لم يكن مفهومًا لنيقوديموس ولا لنثنائيل. وبالرغم من أن السامرية أرادت أن تؤكد سمو ما لديها من تعليم فوق التعاليم اليهودية، إذ أنها أرجعته إلى الآباء البطاركة القدماء، إلاَّ أن المسيح لم يُجب على سؤالها باعتباره زائدًا عن الحاجة قياسًا على ما سيقوله ويبرهن عليه، إن آباءها عبدوا الله على جبل السامرة، بينما عبده اليهود في أورشليم.
      وبما أنه رفع نفسها عاليًا، وقد جرَّد الموضعين من عظمتهما، موضحًا أنه لا اليهود ولا آباؤها استطاعوا أن يمنحوا المستقبل شيئًا هامًا، ولذلك لم تُحر جوابًا ولاذت بالصمت. وعندئذ عرض الخلاف، فبرهن على أن اليهود كانوا أعظم، ليس بمقارنة مكان بمكان، ولكن لأنهم كانوا أصحاب العبادة الأفضل، فاليهود كانوا يتفوقون على السامريين في العبادة لأنه يقول: " أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أمَّا نحن فنسجد لما نعلم". إذن، فالمشكلة ليست في المكان.
      لماذا لم يعرف السامريون لمَن يسجدون؟ لأنهم اعتقدوا أن الله يمكن أن ينحصر في مكان ومن ثم يمكن أن يتجزَّأ، هكذا عبدوه. وهكذا أبلغوا الفرس قائلين إن إله هذا المكان غضب منهم؛ لأن تصورهم عن الله لم يكن أفضل من تصورهم لأصنام الوثنيين. لذلك استمروا في السجود لهذا الإله والشياطين خالطين ما لا يُخلط.
      لكن اليهود كانوا متحررين من هذا الاعتقاد، بل أقرّوا أن الله هو إله المسكونة كلها حتى لو لم يؤمن به الجميع. لذلك يقول المسيح:    " أنتم تسجدون لما لستم تعلمون. أمَّا نحن فنسجد لما نعلم".


أرى أنك نبى
      لا تتشكك إذن؛ إذا رأيت المسيح يحسِب نفسه ضمن اليهود؛ لأنه يتحدث وفقًا لرأي المرأة السامرية بأنه نبي اليهود، لذلك استخدم كلمة "نسجد". أمَّا كونه هو المسجود له فهو أمرٌ لا يجهله أحد. لأن الخليقة نفسها هي التي تسجد لرب الخليقة. وهو أيضًا يتحدث كيهودي. ويقصد بكلمة "نحن"، " نحن اليهود".
      وبالرغم من أنه رفع اليهود، لكنه لم يكن محلاً لثقتهم؛ لأنه يربط الإيمان بأقواله مُبعدًا أية شبهة ومبرهنًا على أنهم لم يُستثنوا بسبب القرابة؛ لأن المسيح عبَّر عن رأيه حول المكان الذي كان محلاً لافتخارهم، وكانوا يظنون أنه أعظم من أي مكان آخر، وبما أنه جرَّد كِلا المكانين من عظمتهما، فمن الواضح أنه لا يقول هذه الأقوال لكي يسعد أحدًا، لكنه قال هذه الأقوال لأجل الحق وقوة الإعلان الإلهى.

مفهوم " إن الخلاص هو من اليهود"
      إذن، وبما انه أبعد السامرية عن هذه الأفكار، وقال لها: " إن الخلاص هو من اليهود"، فإن ما قاله يعني أحد أمرين، الأول: من هناك تأتي كل الخيرات للمسكونة (لأن معرفة الله وإدانة الأصنام جاءت من شعب اليهود، وكذلك كل التعاليم الأخرى، وعبادتك (عبادة السامريين) ـ بالرغم من عدم استقامتها ـ فهي جاءت من اليهود). أمَّا الثاني: فهو أن مجيئه هو يُدعى خلاصًا. وعلى الأغلب فإن كلا المعنيين واردٌ، ولا يستبعد أحدهما الآخر، بالرغم من أنه يدعو كلا الأمرين: خلاصًا، أي الخلاص الذي قال عنه أنه يأتي من اليهود. وهذا ما أشار إليه بولس الرسول حين قال: "ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين" (رو9: 5). هل رأيت كيف يشير إلى العهد القديم باعتباره أصلاً لكل الخيرات، وإنه بكافة الطرق ليس معاديًا للناموس؟ وبالرغم من أنه قال إن اليهود هم السبب في كل الصالحات، إلاَّ أنه:
تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له” (يو4: 23).
وكأنه يقول نمتاز عنكم يا امرأة من جهة طريقة العبادة، بالرغم من أنها قاربت على الانتهاء. لأن تلك النماذج (نماذج العبادة) ستتغير، وتتغير أيضًا طرق العبادة. وهذا الأمر قريب جدًا؛ لأنه يقول: "ستأتي ساعة وهي الآن".

الساجدون الحقيقيون
      2ـ ولأن الأنبياء سبق أن قالوا منذ زمن بعيد هذه الأقوال، فقد تم التصديق عليها هنا، ولذلك قال: "وهي الآن"، أي لا تظني أن هذه النبوة ستتحقق بعد مرور وقت طويل؛ لأن هذه الأمور حاضرةٌ الآن والساعة قريبة جدًا "حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق". وعندما قال: "الحقيقيون" أغلق على السامريين واليهود معًا، لأنه بالرغم من أن الأخيرين أفضل من الأولين، لكن مستقبلهم سيكون أكثر انحطاطًا. وبقدر الاختلاف بين الحقيقة والظل، يقول عن الكنيسة، إنها هي العبادة الحقيقية واللائقة بالله " لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له".
      إذن من هم أولئك الساجدون الحقيقيون؟ هل هم الذين يحصرون العبادة في مكان ما؟ لا، بل الذين يعبدون الله روحيًا كما قال بولس الرسول: " فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه" (رو1: 9)، ثم يقول: " فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حيةً مقدسةً مرضية عند الله عبادتكم العقلية" (رو12: 1). وحين قال المسيح: " الله روح" لم يعلن شيئًا آخر سوى أنه غير جسدي. إذن يجب أن تكون العبادة غير جسدية، وأن تقدَّم بواسطة ما هو غير جسدي داخلنا، أي من خلال نقاوة النفس والذهن، لذلك يقول:

والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو24:4).
      ولأن السامريين واليهود سبق لهم أن أهملوا النفس، وانشغلوا كثيرًا بالجسد مطهِّرين إياه بكافة طرق العبادة الشكلية، يشدد المسيح على أن غير الجسدي، إنما يُسجد له، لا بالطهارة الجسدية، بل بالعبادة الروحية، أي بالقلب وبالروح.
لا تقدِّم ذبيحةً من الخراف والثيران، لكن قدِّم ذاتك ذبيحةً لله؛ فبهذه الطريقة فقط يمكنك أن تُقَدِّم ذبيحةً حيةً. وينبغي أن تعبده بالحق، ولذلك، فكل ما كان فى القديم: مثل الختان، والذبائح والمحرقات، وتقدمة البخور، كانت كلها مجرد رموز وظلال للحق، لكن ليس لها وجود الآن؛ لأن كل شيء صار حقيقيةً، فلا ينبغي لأحد أن يبغض الجسد، بل الأفكار الشريرة، ويصلب ذاته ويمحي أفكاره الشهوانية بتقديم ذاته ذبيحةً.

المسيح هو المسيا
لقد سببت أقوال المسيح اضطرابًا فكريًا للمرأة، فلم تستطع أن تصل إلى سمو هذه الأقوال، وقد تَعِبت. اسمع ماذا أجابت:

أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي, فمتى جاء ذاك يُخبرنا بكل شيء. قال لها يسوع أنا الذي أُكلمك هو” (يو25:4و26).
من أين للسامريين أن ينتظروا المسيح وقد قبلوا ـ فقط ـ موسى؟ من نفس ما كتبه موسى. لأن الابن أُعلن منذ البداية؛ لأن عبارة " نخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك1: 26) قيلت للابن. ويعقوب يتنبأ عنه ويقول: " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوبٍ" (تك 49: 10). وموسى نفسه قال: " يقيم لك الرب إلهك نبيًا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون" (تث18: 15). وكل ما هو مكتوب عن الحية وعصا موسى، وعن اسحق والحمل، وأمورٌ أخرى كثيرة ـ يمكن لأي أحد أن يجمعها ـ كل هذه تشهد لمجيئه.
وسوف تسأل: لماذا لم يستخدم المسيح كل هذه الشواهد لكي يقنع المرأة، فقد ضرب مثلاً لنيقوديموس: عن الحية (التي رفعها موسى في البرية)، وذكر لنثنائيل نبوةً، أمَّا لتلك المرأة فلم يقل شيئًا؟ فما هو السبب في ذلك؟ لأن أولئك كانوا رجالاً، وكانوا مهتمين بهذه الشواهد، أمَّا هذه فقد كانت امرأة فقيرة وغير متعلمة، وبالتالي لم تعرف الكتب المقدسة. لأجل هذا لم يتحدث معها عن هذه الأمور، لكن جذبها بحديثه عن الماء وكشف عن خباياها، واستدعى إلى ذاكرتها المسيا وأعلن ذاته، وهو الأمر الذي يختلف عما لو كان قد قال لها من البداية هذا الإعلان، عندئذٍ كان سيبدو في نظرها مجرد شخص يثرثر ويعبث، لكن بينما هو يستدعي في ذاكرتها هذه الأمور، يكشف لها عن ذاته بطريقةٍ مناسبةٍ.
والمسيح لم يُجب بوضوح على تساؤلات اليهود الذين دائما ما كانوا يسألون دائمًا: "حتى متى تعلَّق أنفسنا. إن كنت أنت المسيح قل لنا" (يو10: 24). لكنه قال للمرأة بكل وضوح إنه هو المسيح؛ لأن هذه المرأة كانت أكثر استعدادًا من اليهود. فاليهود لم يسألوا لأنهم يريدون أن يتعلموا، لكن يريدون أن يصطادوه. لأنهم لو كانوا يريدون التعلّم لكان يكفيهم تعليم الكتب المقدسة والتقليد، لكن السامرية تحدثت معه بذهن بسيط، وفحص نقي ونزيه. ويبدو هذا واضحًا مما فعلته بعد هذا الحديث، فقد سمعت وصدَّقت وأتت بآخرين إلى الإيمان، ويمكن لأي أحد على أي وجه أن يلحظ جدية وإيمان هذه المرأة.
"وعند ذلك جاء تلاميذه"، لقد جاء تلاميذه بينما كان يتحدث مع المرأة، لكن لم يسأل أحدٌ منهم المسيحَ عما يتحدث به مع المرأة، أو لماذا يتحدث معها؟ (يو27:4).
لكن لماذا صار التلاميذ في حيرة وارتياب؟ ألأجل وضاعتها الشديدة؟ بينما كان المسيح معروفًا لدى الكل، يرونه الآن يتناقش بتواضع مع امرأة سامرية نكرة. وبالرغم من أنهم تعجَّبوا، إلاَّ أنهم لم يسألوا عن السبب، فقد كانوا مطيعين دائمًا في حفظ رتبتهم كتلاميذ، فكانوا يهابونه ويحترمونه جدًا. وبالرغم من أنه لم يكن هناك بعد إيمان قاطع وراسخ بشأنه (كابن الله)، لكنهم كانوا يقدرونه كإنسان جدير بالإعجاب، ويحترمونه احترامًا عظيمًا.
لكن، في مراتٍ كثيرة بدا التلاميذ أكثر جرأة: عندما اتكأ يوحنا على صدره، وعندما سألوه: "من هو الأعظم في ملكوت السموات"، وعندما طلب ابني زبدي من المسيح أن يجلس الواحد منهما عن يمينه والآخر عن اليسار (مت20:20). فلماذا لم يسألوه في هذه الحالة؟ يبدو أنهم وقتذاك كانوا في حاجة إلى أن يسألوا عن أمورٍ خاصة بهم، أمَّا الآن فالحدث لا يهمهم كثيرًا.

التلميذ الذى كان يسوع يحبه
يوحنا أيضًا بعد مرور الزمن صنع نفس الأمر لأجل هذا الهدف، بعد أن كانت له قناعات عظيمة وعندما تمتع بحب المسيح بدرجة أعظم فقد كان " التلميذ الذي كان يسوع يحبه" (مت19: 26).
ما هو وجه الشبه فى هذا مع الطوباوي؟
دعونا لا نتوقف يا أحبائي عند مجرد تطويب الرسول، بل تعالوا نبحث وراء تلك الأسباب التي استدعت هذه الدرجة من المحبة؟ هل لأنه هجر أبيه، وترك سفينته وشباكه وتبع المسيح؟. حسنًا، ولكن بطرس وأندراوس وباقي الرسل الآخرين، فعلوا نفس الأمر، فما هو إذن ذلك الأمر الاستثنائي الممتاز الذي استدعى هذه المحبة العظيمة؟ إن يوحنا نفسه لم يقل شيئًا إلاَّ فقط أنه محبوب عند المسيح، وقد كان واضحًا لكل واحد أن المسيح يحبه حبًا خاصًا. وإن كان لم يتحدث إطلاقًا معه عن هذا الأمر ولا سأله، كما حدث مرات كثيرة مع بطرس، ومع يهوذا ومع توما، وإن كان ذلك قد حدث مرة واحدة فقط عندما أراد أن يشكره ويُسمع شريكه في الخدمة الرسولية، فعندما أومأ إليه المتقدم فى الرسل، ونظرًا لما بينهم من محبة كبيرة، عندئذٍ اضطر يوحنا أن يسأله[1]. وهكذا نجد فيما بعد أنهما يصعدان معًا إلى الهيكل ويخطبان في الجموع.
وبالرغم من أن بطرس كان يتحرك كثيرًا ويتحدث بحرارة، إلاَّ أن ذلك لم يمنع يسوع في النهاية أن يسأله: " يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء" (يو21: 15). لقد أحبه ذاك (أى يوحنا) بالأكثر. من الواضح أن المحبة نحو المسيح شيء، وأن يكون محبوبًا من المسيح شيء آخر. إذن، ما هو الذي استدعى المحبة الشديدة نحو يوحنا؟ أنا أعتقد أن يوحنا كان ذا شخصية متواضعة ووديعة بدرجة عظيمة، لذلك لا يبدو أنه تصرف بجسارة على الإطلاق. كم هو عظيم هذا الأمر، وهو الأمر الذي نلاحظه عند موسى أيضًا؛ لأنه تصرف بنفس الطريقة.
حقًا لا يوجد أعظم من التواضع! لذلك افتتح المسيح التطويبات بهذه الفضيلة (مت5: 3). لأنه مثل من يبني مبنىً كبيرًا ويضع حجر الأساس والقاعدة، هكذا المسيح وضع أولاً التواضع؛ لأنه ليس من الممكن، بل أنه من المستحيل أن نخلص بدون الوداعة والتواضع. فلو صام أحد، ولو صلَّى، ولو فعل الإحسان، فهذه كلها لا تعتبر شيئًا إذا غابت الوداعة. إن تلك الفضيلة المرغوبة، جديرةٌ بالمحبة؛ لأنها تحفظ من يمارسها إذا كانت موجودة عنده.

ليتنا نكون متواضعين
ليتنا نكون متواضعين يا أحبائي، ليتنا نكون متواضعين؛ لأننا لو أدركنا هذه الفضيلة لوجدناها سهلة جدًا. لأنه ما هو ذاك الذي يدفعك أيها الإنسان إلى التكبُّر؟ ألا ترى عدم نفع طبيعتنا، ألا ترى أن الشهوة دائمًا ما تؤدي إلى الانزلاق؟ تأمل موتك، تأمل كثرة خطاياك. ربما تتكبر لأنك تستطيع أن تنجز أشياءً كثيرةً، اعلم إذن أنك سوف تفقد الكل.
الخاطئ لا يحتاج أن يكون وديعًا، بل الساعي إلى الفضيلة يجب أن يكون هو الوديع. لماذا؟ لأن الواحد يفكر بهذا عن وعي، أما الآخر إن لم يكن ذو فهم، فإنه سرعان ما ينجرف مع الريح ويُفقد ويُمحى مثل ذلك الفريسي.
لكن أعط للفقراء. إن غناك ليس ملكًا لك، لكن للرب، بل هو مشاع للعبيد. لذلك ينبغي أن تكون وديعًا. وعندما تري خيرك في خير إخوتك في الإنسانية، عندئذٍ تكتشف نفسك فيهم. ألم نأت من نفس الجدود؟ إن كان الغنى معنا اليوم، فهو يتركنا غدًا. وما هو الغنى؟ ظلالٌ ساكنة، دخانٌ سرعان ما ينقشع، زهرةُ نباتٍ أرق من الورود، فلماذا تتكبر من أجل عشب؟ ألا يذهب الغنى للصوص والمفسدين والزناة ولسارقي القبور؟ هل تفتخر لأنك تشترك مع هؤلاء الأغنياء؟
هل تشتهي الكرامات أيضًا؟ لا يوجد شيءٌ أدعى للكرامات من الإحسان؛ لأن الكرامات التي تأتي عن طريق الغنى والقوة، إنما تأتي عن إجبار وسطوة وإكراه، لكن الكرامة الحقيقية تأتي من الإرادة الحسنة، ومن إدراك المكرِّمين. لو كانت فضيلة الإحسان محل احترام البشر، لجاءت لهم بكل الخيرات. تأمل حجم المكافأة التي سوف ينالونها من الله محب البشر! إنها مكافأة كبيرة، وأيّة مكافأة! ليتنا نطلب هذا الغنى الذي يبقى ولا يتبدد أبدًا، ذلك الغنى الذي يجعلنا هنا عظماء، وهناك نلمع في بهاء، نذوق الخيرات الأبدية بنعمة ومحبة البشر لربنا يسوع المسيح الذي له كل المجد مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلى أبد الآبدين آمين.


[1] يوحنا13: 20ـ25 "الحق الحق أقول لكم الذي يقبل من أرسله يقبلني. والذي يقبلني يقبل الذي أرسلني، لما قال يسوع هذا اضطرب بالروح وشهد وقال الحق الحق أقول لكم إن واحدا منكم سيسلمني، فكان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون في من قال عنه. وكان متكئا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد من هو. أجاب يسوع هو ذاك الذي اغمس أنا اللقمة وأعطيه.فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الاسخريوطي.