السبت، 29 أكتوبر 2011

هل من ضرورة للتجسد؟ القديس كيرلس الاورشليمي – كتاب عمانوئيل الله معنا – ترجمة د. جورج عوض

هل من ضرورة للتجسد؟

القديس كيرلس الاورشليمي –  كتاب عمانوئيل الله معنا – ترجمة د. جورج عوض
  كثيرون يقولون ما هي الضرورة العظمى التي تجعل الله يصير إنساناً؟ ويقولون أيضاً هل من الممكن أن تلد عذراء بدون رجل؟ وهل من طبيعة الله أن يتصل بالبشر؟ لكن بسبب كثرة الاعتراضات، وتعدد أبعاد المعركة، هيا بنا ـ بنعمة المسيح وصلوات الحاضرين ـ لنرد على هذه الاعتراضات.

الكتب المقدسة هي شهادتنا:

  دعونا أولاً نفتش عن السبب الذي من أجله نزل المسيح الرب إلى العالم. والآن لا تعتمد على ما أقوله من براهين لأنه من الممكن أن تنخدع، بل إن لم تسمع شهادات الأنبياء عن كل أمر، فلا تؤمن بما أقوله. وإن لم تتعلم من الكتب المقدسة عن ما تقوله عن العذراء وعن المكان والزمن وطريقة ولادة المسيح، " فلا تقبل شهادة من أي إنسان" (انظر يو34:5). لأنه يجوز لأي واحد أن يعتبر الذي هو حاضر معكم الآن ويعلّمكم في موضع شك، ولكن هل هناك إنسان عاقل يمكن أن يشك في ما تم التنبؤ به منذ أكثر من ألف عام؟
   حسناً. إذا أردت أن تفتش عن سبب مجيء المسيح فتعالَ، إلى أول سفر في الكتاب المقدس. لقد خلق الله العالم في ستة أيام، لكن العالم خُلق لأجل الإنسان، فالشمس التي تشرق بأشعتها البهية وجُدت لكي تنير للإنسان، وكل الحيوانات وُجدت لكي تخدمه، كذلك النباتات والأشجار لكي يكون لنا منها طعام. وكل المخلوقات كانت حسنة (راجع تك 21:1)، لكن لم يكن هناك مخلوق من هذه المخلوقات، على صورة الله إلا الإنسان وحده. الشمس خُلقت بمجرد أمرٍ، بينما الإنسان كُوِّن بيدي الله " فلنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك 1: 26). فإذا كانت الصورة الخشبية للملك الأرضي تنال تكريماً، فكم بالأكثر ينبغي أن تُكرم صورة الله العقلية؟

الإنسان أعظم المخلوقات يخرج من الفردوس:

  إن هذا المخلوق الأعظم جداً من كل المخلوقات، والذي كان يعيش منفردًا في الفردوس، أخرجه خارجاً حسد إبليس. والعدو فَرِح بسقوط ذاك الذي حسده. إذاً هل تريد أن يستمر العدو في فرحه؟ إنه لم يتجرأ على الاقتراب من آدم بسبب قوته، فاقترب من المرأة بإعتبارها الأضعف، تلك التي كانت ماتزال عذراء؛ لأن آدم لم يعرف حواء امرأته إلاَّ بعد أن طُردا من الفردوس (راجع تك 4: 1).

إنحدار البشرية إلى الباطل:

  كان قايين وهابيل هما الجيل الثاني للجنس البشري، وكان قايين هو أول قاتل. ثم بعد ذلك جاء الطوفان بسبب شر البشر العظيم. ثم نزلت النار من السماء فوق سكان سدوم بسبب خطاياهم. وبعد سنين كثيرة اختار الله الشعب الإسرائيلي، لكن هذا الشعب إنحرف والجنس المختار سقط في الشر. لأنه، بينما كان موسى فوق جبل سيناء أمام الله، سجَّد الشعب في أسفل الجبل لعجلٍ كإله له (انظر خر 32: 1ـ 4). في زمن موسى الذي قال " لا تزن" (راجع خر 20: 13) تجرأ رجلٌ ودخل إلى القبة وارتكب المعصية (انظر عد 25: 6). وبعد موسى أُرسِل الأنبياء لكي يشفوا الشعب الإسرائيلي، لكن بينما حاولوا أن يشفوا هذا الشعب انتحبوا لأنهم لم يستطيعوا أن ينتصروا على ضعفه، كما قال أحدهم " ويل لي... قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس" (مي 7: 1ـ 2). وأيضاً " الكل قد زاغوا معاً فسدوا. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد" (مز 14: 3). وكذلك " لعنٌ وكذبٌ وقتلٌ وسرقةٌ وفسقٌ. يعتنقون ودماءٌ تلحق دماء" (هو 4: 2)، " وذبحوا بنيهم وبناتهم للأوثان" (مز 105: 37). انشغلوا بالعرافين والسحرة والجان، وأيضاً    " يتمددون على ثياب مرهونة بجانب كل مذبح ويشربون خمر المغرمَّين في بيت آلهتهم" (عا 2: 8).

البشرية جُرِحت جُرحًا خطيرًا:

  هكذا، كان جُرح البشريةِ خطيرًا جدًا، من القدم حتى الرأس لا يوجد أي عضو سليم، ولم يكن من الممكن لأحد أن يضع على الجروح ضمادات أو زيت ولا أربطة (راجع أش 1: 6)، الأنبياء انتحبوا وبكوا وقالوا: " ليت من صهيون خلاص إسرائيل" (مز 14: 7). وأيضاً " لتكن يدك على رجل يمينك وعلى ابن آدم الذي اخترته لنفسك. فلا نرتد عنك" (مز 80: 17، 18). ونجد المُرنم يتوسل قائلاً: " يا رب طأطأ سمواتك وانزل إلمس الجبال فتدخن" (مز 144: 5). أنزل لأن جروح البشرية تخطت قدرتنا على شفائها. " نقضوا مذابحك وقتلوا أنبيائك بالسيف" (1مل 19: 1). لا يمكن للشر أن يُهزم من جانبنا، فالحاجة إليك وحدك لكي تخلّص الإنسان[1].

أرسل الله إبنه لكي يشفينا:

  سمِع الربُ طلبة الأنبياء. لم يهمل الآب جنسنا الهالك، بل أرسل ابنه، الرب من السماء كطبيب لكي يشفينا[2]. وقال أحد الأنبياء " يأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه" (ملا 31: 1)، لقد أتى الرب إلى هيكله حيث حاول اليهود أن يرجموه (راجع يو 8: 59). وعندما سمع نبي آخر هذا الكلام، فكأنه يقول للنبي أتعلن خلاص الله وتقول هذا الأمر هكذا بهدوء تام؟ أتحمل بشارة مجيء الله للخلاص وتتحدث بها في الخفاء؟
  "على جبل عالٍ اصعدي يا مبشرة صهيون. ارفعي صوتك بقوة يا مبشرة أورشليم. ارفعي لا تخافي. قولي لمدن يهوذا هوذا إلهك. هوذا السيد الرب بقوة يأتي..." (أش 40: 9، 10).
  أيضًا الرب نفسه يقول " هاأنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب. فتتصل أمم كثيرة بالرب" (زك 2: 10، 11). لكن بني إسرائيل رفضوا خلاصي الذي قدمته لهم، ولذلك "جئت لأجمع كل الأمم والألسنة فيأتون ويرون مجدي" (انظر إش 66: 18). لأنه " جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله" (يو 1: 11)، وما الذي تمنحه للأمم عندما تأتي؟ يقول: " أجعل فيهم آية" (أش 66: 19)، لأني بينما أنا أتألم فوق الصليب، أعطي لكل واحد من جنودي، أعطي ختمًا ملكيًا لكي يحمله على جبينه. ونبي آخر قال " طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه" (مز 18: 9)، لأن، نزوله من السماء لم يكن معروفًا للبشر.
  بعدما سمع سليمان أباه داود يقول هذه الأقوال، بني هيكلاً عظيماً، وهو يرى مسبقاً ذاك الذي سوف يأتي إلى هذا الهيكل، وقال مندهشاً "هل يسكن الله حقاً على الأرض؟"، تنبأ داود في المزمور المُعطى لـ "سليمان": " ينزل مثل المطر على الجزاز مثل الغيوث الذارفة على الأرض" (مز 72: 6).
  يقول "مثل المطر" إشارةً إلى أنه سماويٌ، بينما "على الجزاز" يشير إلى بشريته. ولأن المطر يقع على الجزاز بدون صوت، هكذا سرُ الميلاد كان غير معروفٍ، لذا يسأل المجوس " أين وُلد ملك اليهود؟" (مت 2: 2) وهيرودس يسأل وهو مضطرب عن ولادته قائلاً   " أين يُولد المسيح" (مت 2: 4).
  لكن مَنْ هو هذا الذي ينزل؟ يقول في المزمور " يخشونك مادامت الشمس وقدام القمر إلى دور فدور" (مز 72: 5). ويقول نبيٌ آخر أيضاً: " ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومخلّص" (انظر زك 9: 9س).

الملك الوديع:

  أشرح لي أيها النبي عن أي ملكٍ تتحدث فالملوك كثيرون؟ أعطِ لنا علامةً تميز الملك الذي تتحدث عن مجيئه. إن كنت تتحدث عن الملك الذي يلبس الأرجوان، فالآخرون قد أخذوا قبله هذه الكرامة. وإذا كنت تتحدث عن شخص يحرسه الجنود ويجلس فوق مركبة ذهبية، فهذا أيضاً قد صار لآخرين. أعطنا علامةً خاصةً للملك الذي تعلن لنا عن مجيئه. يجيب النبي قائلاً: "هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومخلّص، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" وليس على مركبة. هذه علامةٌ فريدةٌ للملك الذي أتى. الرب يسوع هو الوحيد بين الملوك الذي جلس على جحشٍ ابن أتان، ودخل أورشليم بهتاف كملك (راجع مت 21: 7)، وماذا يفعل هذا الملك عندما يأتي؟ يقول النبي: " وأنت أيضاً فإني بدم عهدك قد أطلقت أسراك من الجب الذي ليس فيه ماء" (زك 9: 11).
  وربما يحدث أن يجلس ملكٌ على جحش، لكن أعطني بالحري علامة أخرى، تدلنا على المكان الذي سوف يقف فيه الملك عندما يدخل المدينة. أظهر لنا المكان الذي يكون غير بعيد عن المدينة، حتى يمكننا أن نعرفه، أعطنا علامة واضحة يمكن أن نراها بالأعين، لكي نستطيع أن نرى المكان حتى عندما نكون في المدينة. يجيب النبي أيضاً قائلاً " وتقف قدماه في ذلك اليوم على جبل الزيتون الذي قدام أورشليم من الشرق" (زك 14: 4)، هكذا يكون في إمكان المرء الواقف في وسط المدينة أن يرى المكان؟[3]

الملك صانع المعجزات:

  الآن عندنا علامتين، نريد أن نعرف الثالثة. أخبرني ماذا سيفعل الرب عندما يأتي؟ يقول نبي آخر: " هو يأتي ويخلصنا. حينئذٍ تنفتح عيون العمى وآذان الصم تتفتح. حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيل ويترنم لسان الأخرس" (إش 35: 4ـ6). قُل لي شهادةً أخرى أيها النبي، فأنت تقول لنا إن الرب الآتي سيصنع معجزات لم تحدث قبل ذلك أبداً (انظر يو 15: 24). أي معجزة أخرى بارزة تريد أن تخبرنا بها؟ يقول النبي: " الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم" (إش 4: 14)، هذه هي العلامة البارزة، السيد احتمل الآلام وحُكِمَ عليه من عبيده شيوخ الشعب.

صار مثلنا لكي نستحق أن نتمتع به:

  وبالرغم من أن اليهود كانوا يقرأون كل هذه الشهادات، لكنهم لم يسمعوا؛ لأنهم أغلقوا آذان قلوبهم حتى لا يسمعوا. أما نحن فنؤمن بيسوع المسيح الذي أخذ جسداً وصار إنساناً، لأننا بغير ذلك لا يمكننا أن نعرفه ونقبله، فنحن ولا نستطيع أن نراه ونتمتع به كما هو (قبل التجسد)، ولذلك صار كما نحن حتى يسمح لنا أن نتمتع به. لأنه، إن كُنا لا نستطيع أن نرى الشمس، التي خُلقت في اليوم الرابع، فهل نستطيع أن نرى الله خالق الشمس؟ لقد نزل الله على جبل سيناء في لهيب نار ولم يستطع الشعب أن يتحمل رؤيته وقالوا لموسى: " تكلم أنت معنا فنسمع. ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت" (خر 20: 19). وأيضاً   " لأنه مَنْ هو مِن جميع البشر الذي سمع صوت الله الحي يتكلّم من وسط النار مثلنا وعاش" (تث 5: 26). فإن كان الإنسان يموت بمجرد أن يسمع صوت الله، فكيف يمكن أن يرى الله نفسه، ألا يتسبب هذا في موته؟ ولماذا تنتابك الدهشة؟ إن موسى نفسه يقول " أنا مرتعب ومرتعد" (انظر عب 12: 21).
   إذاً ماذا تريد؟ هل تريد أن يصير هذا الذي أتى لكي يقدم لنا الخلاص سبباً للموت؛ لأن البشر لا يتحملونه، أم أن يقدم لنا النعمة بالقدر الذي يمكننا أن نقبلها؟ فإن كان دانيال لم يتحمل رؤية ملاك، هل يمكنك أنت أن تحتمل مشهد رب الملائكة؟ لقد سقط دانيال على الأرض عندما ظهر له جبرائيل الملاك (انظر دا 10: 9). وكيف ظهر الملاك وبأي شكل؟ يقول: "جسمه كالزبرجد ووجهه كمنظر البرق وعيناه كمصباحي نار وذراعاه ورجلاه كعين النحاس المصقول وصوت كلامه كصوت جمهور" (دا 10: 6). إن صوته ليس مثل صوت اثني عشرة طغمة من الملائكة، وبالرغم من ذلك سقط النبي على الأرض. واقترب منه الملاك وقال له: " لا تخف يا دانيال... سُمع كلامك وأنا أتيت لأجل كلامك" (دا 10: 12)، وقال دانيال: " قمت مرتعدًا " (دا 10: 11).
   وهكذا، عندما ظهر الملاك بشكل إنسان، عندئذٍ تحدث دانيال. فماذا قال؟ " يا سيدي بالرؤيا انقلبت علىَّ أوجاعي فما ضبطت قوة" (دا 10: 16)، فإن كان بظهور ملاك قد تلاشى صوت النبي وقوته، فهل تبقى فيه نفس بظهور الله؟! وكما يقول الكتاب " فعاد ولمسني كمنظر إنسان وقواني" (دا 10: 18)، إذاً، فطالما اختُبِرت طبيعتنا البشرية، وظهر مدى ضعفنا، أخذ الرب على عاتقه أن يمنح الإنسان ما يحتاجه. فلأن الإنسان يريد أن يسمع إنساناً له نفس الشكل مثله، صار المخلصُ إنساناً، لكي يستطيع البشر بسهولة أن ينالوا الخلاص.

جاء المسيح لكي يعتمد ويُقَدِس المعمودية:

  أيضاً اسمع سبباً آخراً. لقد جاء المسيح لكي يعتمد ويقدس المعمودية. جاء لكي يصنع المعجزات ماشياً فوق مياه البحر (انظر متى 14: 25). ولأن البحرَ رآه ـ قبل تآنسه ـ فهرب، والأردن رجع إلى الخلف (انظر مز 114: 3)، أخذ الرب جسداً، حتى يراه البحر ويتحمله ويقبله الأردن بلا خوف، هذا هو أحد الأسباب.

الخلاص بالتجسد من العذراء: 

  لكن يوجد سبب آخر، لقد أتى الموت إلى العالم من خلال حواء العذراء، فكان يجب إذاً بواسطة عذراء أو بالحرى من عذراء أن تظهر الحياة. فان كانت حواء قد خدعها الشيطان، فإن الملاك جبرائيل بشر العذراء بخبر الخلاص المفرح[4].


[1] يعبر القداس الغريغوري عن هذه الحقيقة بقوله: "لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا رئيس آباءٍ ائتمنتهم على خلاصنا، بل أنت بغير استحالةٍ تجسدت وتأنست.....".
[2] يشرح القداس الباسيلي ذلك بقوله: "لم تتركنا عنك أيضاً إلى الانقضاء، بل تعهدتنا دائماً بأنبيائك القديسين، وفي آخر الأيام ظهرت لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت بابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح".
[3] يبدو جبل الزيتون ظاهراً جداً من أورشليم، وخاصة من جبل الجلجثة حيث كان كيرلس الأورشليمي يلقي عظاته.
[4] تعبر ثيؤطوكية الاثنين عن ذلك بقولها: "حواء التي أغرتها الحية  حُكِمَ عليها من قِبَلِ الرب .... أشرق جسدياً من العذراء بغير زرع بشر حتى خلصنا". ويستفيض لُبش الآدام على ثيؤطوكية يوم الاثنين في الشرح فيقول: "بمشورة أمنا الأولى أكل آدم من ثمرة الشجرة، فجاء على جنسنا وكل الخليقة سلطان الموت والفساد، ومن قِبَلِ مريم والدة الإله اُرجع آدم إلى رئاسته دفعةً أخرى".

الخميس، 13 أكتوبر 2011

الصلاة من أجل الأعداء : محبة وغفران - القديس يوحنا ذهبي الفم - عظة عن الصليب

الصلاة من أجل الأعداء : محبة وغفران
القديس يوحنا ذهبي الفم - عظة عن الصليب - ترجمة د.جورج عوض
           غير أن محبته غير الموصوفة للبشر لم تُرى فى الصليب فقط، بل أيضًا فى كلماته التى تفوه بها على الصليب.
          فلتسمع هذه الكلمات. عندما كان على الصليب معرضًا للهزء والسخرية والإهانة قال: "يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو34:23).
          أرأيت محبة الرب للبشر؟ كان مصلوبًا لكنه صلى من أجل صالبيه، أما هؤلاء فقد كانوا يهزأون به قائلين " إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" (مت40:27). أما هو فلم ينزل عن الصليب إذ هو ابن الله، ولأجل هذا جاء لكى يُصلب من أجلنا.
          قالوا : " أنزل عن الصليب لنرى ونؤمن بك".
أرأيت سفاهة الأقوال وحجج عدم الإيمان. فقد عمل ما هو أعظم من نزوله عن الصليب ولم يؤمنوا، والآن يقولون أنزل عن الصليب لنؤمن بك.
          فالقيامة من الأموات والقبر مغلق بالأختام، كانت أعظم من النزول عن الصليب. وإقامة لعازر من القبر بعد أربعة أيام وهو ملفوف بالأكفان، كانت أعظم من النزول عن الصليب.
          أرأيت الكلام الهزلى، أرأيت الهَوس المتشامخ. لكن انتبه بشدة أرجوك لكى ترى أن محبة الله للبشر هى عظيمة. وأن المسيح اتخذ من اهانتهم له سببًا لكى يصفح عنهم، إذ قال " يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". ولم يكتفوا بهذا بل كانوا يقولون " إن كنت ابن الله فخلص نفسك" أما هو فقد عمل كل شئ لكى يخلص معيّريه وشاتميه وقال: " أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون".
          فماذا حدث؟ هل غُفرت لهم خطيتهم، نعم غُفرت خطية كل من أراد أن يتوب. فإنه لو لم يترك لهم خطيتهم لما صار بولس رسولاً، ولو لم يترك لهم خطيتهم لما آمن به فى الحال الثلاثة آلاف والخمسة آلاف، وعشرات الألوف من اليهود بعد ذلك. فأسمع ما كان يقوله التلاميذ لبولس (أع20:21) " أنت ترى أيها الأخ، كم يوجد ربوة من اليهود الذين آمنوا..".

الاقتداء بالمسيح :
          أرجو يا أحبائى أن نقتدى به، نعم نقتدى بالرب، ولنصلِ من أجل الأعداء. وإن كنت قد نصحتكم بفعل هذا الأمر بالأمس، إلاّ أنى أكرر النصح الآن، فطالما أنك عرفت مقدار عظمة هذه الفضيلة، اقتدِ بسيدك إذن لأنه وهو مصلوب صلى من أجل صالبيه.
قد تتساءل: كيف يمكننى الاقتداء بالمسيح؟ أعلم أنك تستطيع ذلك إذ أردت ، فلو لم يكن بإمكانك أن تقتدى به لما قال " تعلموا منى لأنى وديع ومتواضع القلب" (مت29:11). وإن لم يكن فى مقدور الإنسان أن يقتدى به، لما قال بولس الرسول " تمثلوا بى كما أنا أيضًا بالمسيح" (1كو 29:11). وإن لم ترد أن تقتدى بالسيد ، اقتد بخادمه وأعنى استفانوس، الذى كان أول من استشهد، لقد اقتدى بالمسيح. إن الرب وهو مصلوب بين اللصين، قد تشفع إلى الآب من أجل صالبيه، هكذا أستفانوس خادمه الذى كان وسط الراجمين والحجارة تنهال عليه من الجميع فإنه احتمل الرجم ولم يبال بالأوجاع الناجمة عنه وقال "يارب لا تقم لهم هذه الخطية" (أع59:7).
          أرأيت كيف يتكلم الابن؟ أرأيت كيف يصلى الخادم؟ قال الابن " يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" وقال خادمه أستفانوس " يارب لا تقم لهم هذه الخطية". وأعلم أيضًا أنه لم يصلِّ وهو واقف، بل ركع على ركبتيه وصلى بحرارة وخشوع كثير.
          أتريد أن أُريك إنسانًا آخر صلى صلاة عظيمة من أجل أعدائه؟ أسمع بولس المُطوب يقول " من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مرات ضربت بالعصي، مرة رجمت، ثلاث مرات انكسرت بي السفينة، ليلا ونهارًا قضيت في العمق" (2كو24:11ـ25). ومع هذا قال " فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو3:9).
          أتريد أن أريك أيضًا آخرين من العهد القديم لا من العهد الجديد، يفعلون نفس الأمر؟ ويستحقون كل تقدير إذا أن وصية محبة الأعداء لم تكن قد أُعطيت لهم بعد بل كانت عندهم وصية العين بالعين والسن بالسن، ومجازاة الشر بالشر، ولكنهم بلغوا قامة مسلك الرسل، فأسمع ما قاله موسى عندما كان اليهود مزمعين أن يرجموه " والآن إن غفرت خطيتهم وإلاّ فأمحنى من كتابك الذى كتبت" (خر32:32).
          أرأيت كيف أن كل واحد من هؤلاء الأبرار كان مهتم بخلاص الآخرين قبل خلاصه؟! ولنسأل أى واحد منهم، إن كنت لم تخطئ، فلماذا تريد أن تشترك معهم فى القصاص؟ وسوف تكون إجابته " لا أشعر مطلقًا بالسعادة عندما يتألم الآخرون".
وستجد آخرين فعلوا هكذا؟ وأنا أسوق هذه الأمثلة لكى نُصلح من أنفسنا ولكى نستأصل هذا المرض الخبيث والذى هو بغضة الأعداء، من داخلنا.
          فالسيد المسيح يقول " يا أبتاه أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون"، ويقول أستفانوس " يارب لا تقم لهم هذه الخطية"، ويقول بولس الرسول      " كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل اخوتي أنسبائي حسب الجسد"، ويقول موسى " والآن إن غفرت خطيتهم وإلاّ فأمحنى من كتابك الذى كتبت".
          فقل لى، أى غفران سننال نحن إذا كان السيد وخدامه فى العهدين القديم والجديد، كلهم يحثوننا على الصلاة من أجل الأعداء، بينما نحن نفعل العكس ونصلى ضدهم؟ إن ما أرجوه هو ألاّ تهملوا هذا لأنه بمقدار ما تزداد النماذج التى يجب أن نقتدى بهم، بقدر ذلك يزداد عذابنا إن نحن لم نتمثل بهم.
          الصلاة من أجل الأعداء مرحلة أسمى من الصلاة من أجل الأحباء. لأن الثانية لا تكلفنا مثل الأولى: " فإن أحببتم الذين يحبونكم فأى فضل لكم؟" إذا صلينا من أجل الأحباء فلن نكون أفضل من الأمم والعشارين. أما إذا أحببنا الأعداء فإننا نصبح متشبهين بالله بقدر ما تسمح به طبيعتنا البشرية فإن الله " يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت45:5).
          فطالما لدينا أمثلة مما فعله المسيح وأيضًا خدامه، فلنتشبه بهم، ولنقتنى هذه الفضيلة، لنكون أهلاً لملكوت السموات، مستعدين دائمًا لنقترب بدالة أكثر وبضمير نقى تمامًا إلى المائدة المهيبة، ولنتمتع بما وعدنا به الرب من خيرات بنعمة ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح ومحبته للبشر، الذى له المجد والعزة مع الآب والروح القدس. الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين.

الاثنين، 10 أكتوبر 2011

المسيح يُلطّم - القديس يوحنا ذهبي الفم

" ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفاً " يو 22:18
وأنا أتسأل هل هناك أوقح من هذا الذي حدث ؟ إرتعدي أيتها السماء .  وأهربي أيتها الأرض من مكانك بسبب طول أناة الرب وجحود العبيد . ماذا قال ؟ لم يتجنب الرد حين قال " لماذا تسألني " ، ولكنه تكلم أيضاً هذة المرة ، بهدف أن يكشف عن كل ما في داخلهم من  دوافع للجحود . وقَبِلَ اللطم بينما كان في إستطاعته أن يبيد من أمامه كل شييء ويمحُوه . ولكنه لم يفعل أي شييء من هذا ، بل قال كلاماَ يمكن ان يُوقف أي وحشية : " إن كنت قد تكلمت ردياً فأشهد على الرديء " ، أي إن كان لديك إدانه على كلامي أظهرها لي . " وإن حسناَ فلماذا تضربني ؟ " يو 23:18 أرأيت هذة المحكمة المليئة بالفوضى والاضطراب والغضب وخلط الأمور بعضها ببعض ؟ وفي الوقت الذي سأله رئيس الكهنة  في خسة وجُبن ، أجاب المسيح بأستقامة ولياقة . ما الذي كان على رئيس الكهنة أن يفعله ؟ إما أن يواجهه بما لديه من إعتراضات أو ان يقبل ما قاله . لكن شيئاً من هذا لم يحدث ، بل لطمه العبد . يتضح منذلك أن ما جرى لم يكن محاكمة بل مؤامرة واستبداد .