العظة الثالثة عشر للمؤمنين حديثًا[1]
” صُلِب وقُبر ”
للقديس كيرلس الأورشليمي
ترجمة د جورج عوض
الصليب هو
فخرنا
1ـ صليب الرب هو فخرنا العظيم
إن كل
عمل فعله المسيح هو بمثابة فخر للكنيسة الجامعة، لكن أكثر الأعمال فخرًا هو صليبه.
وبولس الرسول يعرف هذا الأمر، لذا قال: " وأما من جهتى فحاشا لي أن أفتخر إلاّ
بصليب ربنا يسوع المسيح " (غلا14:6).
لأنه
كان أمرًا عجيبًا أن يرى المولود أعمى في بركة سلوام (انظر يو7:9)، لكن هذا الأمر
العجيب والمدهش لم يحمل أى فائدة لعميان المسكونة كلها. وكان بالتأكيد أمرًا مدهشًا
وعظيمًا وفوق طبيعي، أن يقوم لعازر بعد أربعة أيام من موته، لكن نعمة القيامة قد انحصرت فقط فيه. وأتساءل ما هى نتيجة قيامته على
الذين كانوا أمواتًا بالخطايا في كل المسكونة؟ أيضًا لهو أمر عجيب أن يُطعِم
المسيح خمسة آلاف نفس من خمس خبزات (انظر مت21:14)، لكن ما نتيجة هذه المعجزة
بالنسبة للذين يجوعون جهلاً ـ جهل معرفة الله ـ في كل المسكونة؟ (انظر عا11:8).
كذلك
أمر عجيب أن تنحل المريضة المربوطة منذ ثمانية عشر عامًا من الشيطان وتنفك قيودها،
لكن ما نتيجة ذلك بالنسبة لنا نحن المقيدون بشدة بحبال خطايانا؟ (انظر أم22:5).
2ـ مات المسيح لأجلنا على الصليب وفدَّى كل العالم، لأن الذي مات لأجل
الجميع لم يكن مجرد إنسان بل ابن الله وحيد الجنس. إن كانت الخطية تمكنّت بإنسان
واحد ـ آدم ـ أن تحمل الموت إلى العالم، أي بخطية الإنسان الواحد ـ آدم ـ ساَّد
الموت على العالم، كيف لا تملك الحياة بالأكثر ببر الإنسان الواحد ـ المسيح؟ (انظر
رو17:5).
وإن كان الأبوين الأولين طُردا
من الفردوس بسبب أنهما أكلا من ثمار الشجرة (انظر تك24:3). فكم بالحري يدخل بسهولة
كل الذين يؤمنون إلى الفردوس بفضل شجرة صليب يسوع؟
إن كان المخلوق الأول من
الأرض جلبَّ الموت إلى كل المسكونة، كيف لخالقه الذي كوّنه من الأرض (راجع تك2) لا
يُحضِر الحياة الأبدية، إذ أنه الحياة؟ (يو6:14).
إن كان فينحاس الذي قتل ـ
من غيرته ـ الذي فعل أفعالاً قبيحة وأوقف
غضب الله (راجع عد11:8)، أليس المسيح الذي لم يقتل أحدًا بل أعطى ذاته فدية (انظر
1تيمو6:2) لا يستطيع أن يُزيل الغضب المضاد للبشر؟
3ـ ذبيحة
المسيح على الصليب أبطلت كل الذبائح ومنحت الخلاص
إذًا دعونا لا نخجل من صليب
المخلّص بل بالحري نفتخر به. لأن الإفتخار بالصليب هو عثرة لليهود وجهالة للأمم
(انظر 1كو18:1ـ23)، لكن بالنسبة لنا هو خلاص إذ بالنسبة لأولئك الذين يتبعون طريق
الهلاك هو جهالة، أما بالنسبة لنا نحن الذين خلصنا هو قوة الله (انظر 1كو18:1).
لأنه لم يكن المسيح مجرد إنسان مات لأجل كل البشر بل هو ابن الله الذي تأنس.
إن كان في زمن موسى طَرد حمل
الفصح الملاك الذي أراد أن يُهلك البشر ـ بعيدًا (انظر خر23:12)، ألا يُحرّر
بالأكثر حمل الله، المسيح، الذي يرفع خطية العالم، من الخطايا؟ أيضًا إن كان دم
الحمل غير العقلي منَّح نجاة، ألا يخلص بالحري جدًا دم ابن الله وحيد الجنس؟
إن كان أحد لا يؤمن بقوة
المسيح الذي صُلِب، فليرى ما صار للشياطين. إن كان المرء لا يؤمن بالأقوال، فليؤمن
من جراء الأمور التي ظهرت عيانًا. كثيرون في كل المسكونة صُلبوا، لكن ولا واحد من
هؤلاء أخافوا الشياطين، بل بمجرد أن يروا علامة صليب المسيح الذي صُلِب لأجلنا
يرتعدون خوفًا. هذا صار لأن الآخرون ماتوا على الصليب بسبب خطاياهم، أما المسيح
فمن أجل خطايا الآخرين. لأنه يقول: " الذي لم يفعل خطية ولا وُجِد في فمه
مكر " (1بط22:2). وليس بطرس فقط يقول هذا، حتى لا يرتاب أحد ظانًا أنه
يتفضل على معلّمه، إذ أن إشعياء النبي يقول هذا الأمر، إشعياء، الذي لم يكن حاضرًا
جسديًا مع المسيح، قد رأى مقدمًا مجيء المسيح كإنسان (انظر إش9:53). ولماذا أقدم
الآن شهادة النبي؟ خُذ شهادة بيلاطس الذي حكم عليه، يقول: " لم أجد في هذا
الإنسان عِلة مما تشتكون به عليه " (لو14:23). وبينما هو يُسلّمه ليُعاقب
ـ بعد أن غسل يديه ـ قال: " إني بريء من دم هذا البار "
(مت24:27). يوجد شهادة أخرى من المسيح البار، الذي لم يفعل خطية، شهادة اللص الذي
هو أول مَن دخل الفردوس، والذي وبّخ اللص الآخر، وقال له: " أما نحن
فبعدلٍ لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا فلم يفعل شيئًا ليس في محله
" (لو41:23).
4ـ المسيح خلّصنا
بالحقيقة وليس ظاهريًا لأن موته كان موتًا حقيقيًا:
لقد تألم المسيح بالحقيقة
لأجل كل البشر، فالصليب لم يكن خياليًا، إذ يترتب على ذلك أن الفداء سيكون خياليًا.
لن يكون الموت خيالي، لأنه سيكون الخلاص أيضًا أسطورة. لو كان الموت خياليًا،
فأولئك، الذين قالوا " قد تذكرنا أن ذلك المُضِل قال وهو حيّ إني بعد
ثلاثة أيام أقوم " (مت63:27) هم على حق. إذًا الألم كان حقيقي لأنه حقًا
صُلِب المسيح ولا نخجل من هذا الأمر. لقد صُلِب ولا أنكر المصلوب بل بالحري أفتخر
وأنا أقول هذا. وإذا أنكرته الآن فإن الجلجثة، التي نحن مجتمعين بالقرب منها،
تقنعني. أيضًا تقنعني خشبة الصليب التي وُزعت قطعة ـ قطعة على كل المسكونة. أعترف
بالصليب لأني أؤمن بالقيامة. لأنه لو ظل مصلوبًا ولم يقم لما كنت أعترف بها، وكنت
سوف أخفيها مع سيدي. لكن لأن القيامة أعقبت الصليب لا أخجل من الإفصاح عنه.
5ـ المسيح الذي
تألم على الصليب كان بلا خطية في كل شئ:
هكذا صُلِب كإنسان مثلنا لكن
ليس بسبب خطايا إقترفها، لأنه لم ينقاد إلى الموت من جراء محبته للفضة، لأنه كان
يُعلم بعدم التملك، ولا حُكم عليه بسبب شهوة جسدية لأنه هو الذي قال بكل وضوح:
" إن كل من ينظر إلى إمرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه "
(مت28:5). ولا لأنه بوقاحة تشاجر أو ضرب أحد، إذ أنه أدار خده الآخر إلى الذي ضربه
(انظر مت39:5، 7:26). ولا احتقر الناموس، إذ كان متممًا له. ولا استهزأ بأى نبي،
لأن الأنبياء قد سبق وتنبأوا عنه. ولا أخذ أجرًا من أحد، إذ كان يشفي بدون أجرٍ أو
مكافأة. لم يُخطئ بالأقوال ولا بالأعمال ولا بالأفكار " الذي لم يفعل خطية
ولا وُجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يُشتم عوضًا. وإذ تألم لم يكن يُهدد بل
كان يُسلّم لمن يقضي بالعدل " (1بط22:2ـ23). لقد تألم بإرادته. وحين
توسّل إليه أحد وقال: " حاشاك يا رب. لا يكون هذا "
(مت22:16)، قال له: " اذهب عني يا شيطان " (مت23:16).
6ـ المسيح مات
بإرادته لذلك كان الصليب مجده:
وهل تريد أن تقتنع أنه أتى
إلى الألم بإرادته؟ كل البشر الآخرين لا يعرفون تمامًا متى يموتون، لذا هم يموتون
بدون إرادتهم. لكن المسيح قال مقدمًا: " ابن الإنسان يُسلّم ليُصلب
" (مت2:26). وهل أدركت لماذا لم يتجنب مُحب البشر الموت؟ لكي لا يهلك العالم في خطاياه. لقد قال: " ها
نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يُسلّم " (مت18:20)، إذ مكتوب
أيضًا: " ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم " (لو51:9).
هل تريد أن تعرف جيدًا أن
الصليب هو مجد يسوع؟ لقد سمعته يتحدث وليس أنا، حين خان يهوذا وأنكر عرفان سيده.
لقد خرج من المائدة وبدلاً من أن يتبارك بشراب الخلاص شرّع في أن يسكب دم البار:
" الذي وثقت به آكل خبزي رفع عليَّ عقبه " (مز9:41) وبينما هيأ
نفسه ليخون المسيح لأجل المال، قال له المسيح: " أنت قلت "
(مت25:26) أي أنت قلت أنك خائن، خرج بعدها لكي يخونه. ثم بعد ذلك قال المسيح:
" قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان " (يو23:12). وهذا لا يعني
أنه قبل ذلك لم يكن له مجد، لأنه كان ممجدًا بالمجد الأبدي، وبكونه إله كان ممجدًا
دائمًا، ولم يمت إذ ذبحوه عنوة، بل كل ما صار له حدث بإرادته. اسمع ماذا قال: " لم يكن لك عليّ سلطان البتة
" (يو11:19) لأنني بإرادتي سوف أقدم ذاتي ذبيحة واغفر للأعداء لأنني إن كنت
لا أريد أن يحدث هذا لما كان حدث شيئًا مما حدث.
إذًا لقد أتى مهيئًا ذاته
ومستعدًا للأم، مسرورًا لتتميم هذا الحدث لابسًا تاج الشوك وهو مملوء بالسرور من
أجل خلاص البشر، لم يخجل من عار الصليب لأن به خلّص المسكونة. هذا الذي تألم لم
يكن مجرد إنسانًا مهمشًا بل كان الله الذي تأنس متسلحًا بالصبر من أجل الجهاد
الموضوع أمامه.
7ـ رفض اليهود
المصلوب إذ صار الصليب عثرة بالنسبة لهم، وهكذا أُعطيت النعمة إلى الأمم:
لقد اعترض اليهود، هؤلاء
الذين هم دائمًا متأهبون للإعتراض وخاملون من جهة الإيمان، لدرجة أن النبي إشعياء قال:
" مَن صدّق خبرنا " (إش1:53). ياللعجب، الذين هم من أهل فارس
يؤمنون، بينما اليهود لا يؤمنون " الذين لم يخبروا به سيصبرون والذين لم
يسمعوا سيفهمون " (رو21:15)، اليهود الذين يدرسون الكتب المقدسة يناقضون
ما يدرسونه هؤلاء يعترضون قائلين: بناء على ذلك هل تألم الرب؟ هل الأيدي البشرية
هى أقوى كثيرًا من سلطانه؟ اقرأ مراثي إرميا ـ لأنه وهو يرثي لحالكم بسبب الأمور
الجديرة بالرثاء، رأى دماركم وشاهد سقوطكم ورثى وقتذاك أورشليم لأن أورشليم
الحالية لا تحتاج إلى رثاء. لقد صلبته أورشليم القديمة، أما الحالية فهى تعبد
المسيح. لقد رثاها قائلاً: " نفس أنوفنا مسيح الرب أخذ في حفرهم "
(مراثي إرميا 20:4).
هل أنا ابتدعت شيئًا من هذه
الأقوال، ها هو النبي يشهد للمسيح الرب الذي قُبض عليه من البشر. وما هى النتيجة؟
أخبرني أيها النبي. يقول النبي: " في ظله نعيش بين الأمم "
(مراثي إرميا 20:4). ليس بعد في إسرائيل. لقد أراد أن يقول من الآن فصاعدًا سوف لا
تُعطى نعمة الله للشعب الإسرائيلي بل للأمم.