مريض بركة حسدا ( 2 ) للقديس يوحنا ذهبي الفم ترجمة د جورج عوض ابراهيم
الاعتراف بالجميل من جانب المخلع
" فمضى الإنسان وأخبر اليهود إن
يسوع هو الذي أبرأه" (يو5: 15). وهنا نراه مصممًا على إعلان اعترافه
بالجميل؛ لأنه لم يقل إن المسيح أمره: " احمل سريرك"؛ فقد أثار
اليهود ـ بحسب رأيهم ـ دائمًا هذا الاتهام، ولكن المشلول كان دائمًا ما يصر على
نفس الدفاع، حتى يمجِّد الطبيب ويمهد لدعوة الآخرين ليتعرَّفوا على المسيح. فلم
يكن عديم الإحساس، حتى أنه بعد فعل الإحسان هذا وما أسداه إليه من نُصحٍ، يخون من
أحسن إليه، ويقول عنه كلامًا سيئًا. فحتى لو كان وحشًا، وإن كان مجردًا من
الإنسانية أو كان قد صُنع من حجرٍ، فالإحسان والخوف كانا قادرين على ضبطه، لأن
تهديدًا كان قد وصل إلى مسامعه، فخاف أن يكون له أشر؛ خصوصًا وقد حصل على برهان
عظيم عن قوة الطبيب، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى، لو كان قد أراد أن يشي به،
لكان في استطاعته أن يتغاضى عن عافيته، فيؤكد لليهود أن المسيح خالف الوصية فيتهمونه
بكسر السبت، لكنه لم يفعل ذلك. بل على النقيض، فقد تحدَّث بجرأة كبيرة، وعرفان
بالجميل، ومجَّد من شفاه وأحسن إليه إحسانًا ليس بأقل من الذى ناله المولود أعمى.
لأن المولود أعمى قال: " صنع من
التفل طينًا وطلى بالطين عينيَّ" (يو9: 6). كذلك قال
المشلول: " فمضى ذلك الإنسان وأخبر اليهود إن يسوع هو الذي أبرأه"
(يو5: 15). "ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن
يقتلوه لأنه عمل هذا في سبتٍ".
المساواة بين الآب والابن
بماذا أجاب المسيح؟: " أبي يعمل
حتى الآن وأنا أعمل". وعندما دافع عن تلاميذه وضرب لهم مثال داوود وقال:
" أما قرأتم ما فعله داوود حين جاع هو والذين معه؟" (مت12: 3). إذن، عندما
أراد أن يتكلم عن نفسه لجأ إلى الآب لكي يبرهن على أن له نفس كرامة الآب، فهو يذكره
بقوله "أبى"، من ناحية. ومن ناحية أخرى، هو يعمل نفس الأعمال معه.
ولماذا لم يذكر لهم المسيح ما صار في
أريحا (لو1:19ـ10)[1]، لقد أراد أن
يفصلهم عن الأرض والفكر الأرضى حتى لا يروا فيه مجرد إنسان، بل إلهًا ومشِّرعًا حين
قال " أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل". لأنه، لو لم يكن ابنًا
حقيقيًا وليس من ذات جوهر الآب، لكان الدفاع أقل من أن يرد الاتهام. فإنه لو خالف
أحد الرؤساء القانون الملكي مستندًا على أن الملك نفسه يخالف القانون، لما استطاع
أن يخلص نفسه، بل يزيد ذلك من صعوبة موقفه.
لكن، إذا كانت الكرامة متساوية،
عندئذٍ يكون هذا الدفاع متفقًا وحكم القانون. فالمسيح يريد أن يقول إن الله برئ من
كل ما تقولونه، وأنا أيضًا كذلك. لذلك، كلمهم منذ البداية عن "أبيه"
مريدًا أن يقنعهم بذلك لكى يتفهموا موقفه بشفاء المريض (يوم السبت) ويحترموا
معرفته الحقيقية للآب.
وإذا سأله أحدٌ أين هو عمل الآب طالما
أنه استراح في اليوم السابع من كل أعماله؟ فليته يعلم كيف يعمل. وما هي طريقة
عمله؟ إنه يحفظ خليقته ويعتنى بها على الدوام. فعندما ترى الشمس تُشرق، والقمر
يسطع، عندما ترى المواني، والينابيع، والأنهار، والمطر، وعندما ترى بصمة الطبيعة
سواء على أجسادنا، أو على أجسام الحيوانات غير العاقلة، وكل الأمور الأخرى التي
يتكون منها الكون، عندئذٍ تدرك عمل الآب الدائم. لأن الإنجيلي يقول: " فإنه
يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (مت5: 45)، ثم يستمر قائلاً:
" فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدًا في التنور يُلبسه الله
هكذا، أفليس بالحري جدًا يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان" (مت6: 30)، وعن العصافير
يقول: " أبوكم السماوي يقوتها" (مت6: 26).
هنا صنع المسيح المعجزة في يوم السبت،
ولم يضِّف شيئًا. لكن ما حدث في الهيكل بعد ذلك، وما فعله اليهود، يدفع الاتهام،
ليس بالنسبة لِما أمر أن يكون من عمل، مثل أن يرفع المشلول سريره، فإن ذلك لم يكن
أمرًا على درجة كبيرة من الأهمية في حد ذاته، لكن بالنسبة لمَن أشار بوضوح إلى
مخالفة السبت، يتوسع المسيح في كلامه بالأكثر؛ لأنه أراد أن يفاجئهم بكل ما قاله
عن مساواته بالآب، ويرفعهم إلى أعلى. لذلك، عندما كان الحديث يدور حول السبت، لم
يكن يدافع بصفته إلهًا فقط، أو كإنسان فقط كان يتكلم، لكنه كان يتكلم بأيٍ من
الطريقتين بحسب الأحوال؛ لأنه أراد أن يؤمنوا بالاثنين: أي الولادة بالجسد،
والمساواة في الإلوهية. لذلك يمكننا أن نؤكد أن حديثه هنا كان كإله.
لأنه لو أراد أن يتحدث إليهم دائمًا باعتباره
إنسانًا، لاستمر على هذه الحال. ولهذا ذكر الآب لكى يوضح بنوته للآب. ولكن بما أن
الخليقة نفسها تستمر في العمل يوم السبت، حيث ترسم الشمس مسارها، والأنهار تخط
طريقها، والينابيع تتدفق، والنساء تلد، ولكي تعلم أن عطلة السبت لا علاقة لها
بالخليقة، لم يقل نعم أنا أعمل، لكنه قال أنا أعمل لأن أبي يعمل، " فمن
أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه؛ لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا
إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله" وقد برهن على ذلك ليس فقط بالأقوال،
لكن بالأكثر جدًا بالأعمال. إذن لماذا طلب اليهود أن يقتلوه؟ لأنه لو برهن بالأقوال
فقط لكانوا قد اكتفوا بأن يستهزئوا به ويتهمونه، ولكن لأنهم رأوا إن الأقوال تتفق
مع الأعمال، لم يستطيعوا أن يواجهوه.
وإن كان أولئك الذين لم يريدوا أن
يقبلوا كل هذا ـ من باب التقوى[2]
ـ يزعمون إن المسيح لم يجعل نفسه مساويًا لله، لكن اليهود هم من ادعى عليه هذا
الادعاء.
إلاَّ أن ملخَّص ما قلناه يرد على
هؤلاء. اخبرني: هل أدانه اليهود أم لم يدينوه؟ الواضح للكل أنهم أدانوه. بل وقد
أدانوه لأجل هذا السبب بالتحديد كما أقرَّ بذلك الجميع. هل أبطل السبت أم لم
يبطله؟ إن أحدًا لا يستطيع أن يعترض على هذا الاتهام. ألم يقل إن الله أبوه؟ وهذا
أيضًا صحيح، لقد قال إن الله أبوه. إن تجميع حلقات هذه السلسلة يؤدي بنا إلى
النتيجة التالية: بما أنه قال إن الله أبوه، وإنه أبطل السبت بالفعل، وقد أدانه
اليهود على كلا الاتهامين، إذن فهم لم يدَّعوا عليه كذبًا، لكن ما اتهموه به كان
حقيقةً واقعةً، لأنه إذا كان قد جعل نفسه مساويًا لله، فقد كان ذلك إعلانًا عن
ذاته.
من كل ما سبق يمكن للمرء أن يتأكد من
مساواته لله بوضوح. لأن تعبير المسيح " أبي يعمل وأنا أعمل" يعني
أنه جعل نفسه مساويًا لله، ولا يمكن لأحد أن يختلف على ذلك، فهو لم يقل: ذاك يعمل
وأنا اخدمه، لكن قال: كما يعمل ذاك، هكذا أعمل أنا، وأظهر بالفعل مساواةً تامةً.
وإذا لم يكن المسيح قد أراد بالفعل أن يُظهر ذلك، لكان عبثًا ما يدعيه عليه
اليهود، وما كان المسيح ليتركهم يرون فيه رأيًا خاطئًا، بل كان سيصحح لهم هذا
الرأي. بل وما كان يوحنا الإنجيلي قد صَمَت، بل لقال بوضوح إن اليهود قد اشتكوا
عليه أنه جعل نفسه مساويًا لله.
وقد حدث ذلك عدة مرات، عندما كان المسيح
يتكلم عن أمرٍ ما، في الوقت الذي كان فيه اليهود يفهمون أمرًا آخر. وعلى سبيل
المثال: عندما كان يتكلم عن جسده، قال: " انقضوا هذا الهيكل وأنا أبنيه في
ثلاثة أيام"، أمَّا اليهود فلم يفهموا ماذا يقصد بقوله هذا، فقد ظنوا أنه
يقول عن مبنى الهيكل اليهودي، فأجابوه: " في ست وأربعين سنة بُني هذا
الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه. وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده" (يو2: 20ـ21). واضح لنا هنا
أن المسيح بينما هو يتكلم عن أمرٍ ما، فهم اليهود أمرًا آخر، فبينما كان المسيح
يكلمهم عن جسده، ظنوا هم أنه يتحدث عن هيكلهم. فهل صَمَت الإنجيلي أم بالأحرى صحح
رأيهم؟ لقد صحح لهم ما فهموه عندما أضاف: " أما هو فكان يتكلم عن هيكل
جسده". إذن، فبالرغم من أن المسيح ـ في هذه الحالة ـ لم يكن يتكلم عن
مساواته لله، ولا أراد أن يعرض لهذا الأمر، لم يتركهم الإنجيلي في خطئهم، بل صحح
لهم رأيهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق