للقديس يوحنا ذهبي الفم
ترجمة د. جورج عوض
ترجمة د. جورج عوض
حالة بولس الرسول
أرأيت
الملك (داود) الذي كان يقضي نهارًا وليلاً في الصلوات والدموع. والآن أنظر معلم
المسكونة، بالرغم من أنه مسجون مع سيلا وأرجله مقيدة يصلي الليل كله بدون أن يمنعه
النوم ولا القيود بل بسبب هذه القيود يُظهِر بالأكثر أيضًا محبة حارة تجاه الرب،
لأنه مكتوب: " وَنَحْوَ نِصْفِ اللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ
وَيُسَبِّحَانِ اللهَ، وَالْمَسْجُونُونَ يَسْمَعُونَهُمَا" (أع25:16).
داود
الملك كان يقضي حياته بالدموع والصلوات. والرسول الذي أختُطف إلي السماء الثالثة
وكان جديرًا بأن يري تلك الأسرار التي لا تُوصف، بينما كان مقيدًا، كان يصلي في
منتصف الليل ويسبح الله. والملك كان يقوم في منتصف الليل ليصلي، وكذلك الرسل كانوا
يصلون ساعات كثيرة في منتصف الليل وكانوا يسبحون الله.
كل مكان ووقت هما مناسبان للصلاة
ليتنا
نتشبه نحن أيضًا بهؤلاء، وبالصلوات المستمرة دعونا نحفظ حياتنا ولا يعوقنا شيء عن
فعل هذا الأمر. حقًا لو حاولنا لن يوجد شيء يستطيع أن يقف عائقًا أمامنا.
هل
نحتاج لمكان أو وقت معين؟ أقول، كل مكان وكل وقت هو مناسب للصلاة. لكن إسمع أيضًا
معلم المسكونة الذي يقول: " فَأُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الرِّجَالُ فِي كُلِّ
مَكَانٍ، رَافِعِينَ أَيَادِيَ طَاهِرَةً، بِدُونِ غَضَبٍ وَلاَ جِدَال"
(1تيمو8:2).
لو
لديك ضمير نقي من الأهواء الرديئة، سواء كنُت في السوق أو البيت أو في الطريق أو
في البحر أو وأنت وافق في المحكمة أو في الفندق، وسواء كُنت في المصنع أو حيثما
كنت، سوف تستطيع أن تستدعي قوة الله.
إذن،
أرجوكم أن تعرفوا هذا جيدًا، مع الصوم ليتنا نحرص أيضًا علي الصلاة المستمرة،
وهكذا دعونا نوفر من هنا الحماية الإلهية لذواتنا وتكون لدينا معونته ونقضي هذه
الحياة كما يريد الله، وفي الدهر الآتي سنكون مُؤهلين لمحبة ورأفة ربنا يسوع
المسيح الذي له المجد والكرامة مع الآب والروح القدس الآن وكل أوان وإلي دهر
الدهور آمين[1].
الحاجة إلي المثابرة واللجاجة[2]
يتوج
الرب دائمًا الناس الفضلاء بمعيار تصرفهم ومقاصدهم الداخلية. وهذا يستطيع أن يراه
المرء في المثابرة في الصلوات. فالذي يأتي بغِيره إلي الصلاة، سيقول له الله:
" أنا حاضر". إذن لو أظهر إصرارًا شديدًا وصاغ مطالبه بشوقٍ وغِيرة، قبل
أن يطلب شيئًا سوف يمدحه ويكلله. هذا قد فعله مع المرأة الكنعانية. لأنه، عندما
رأي قوتها ولجاجتها، قد مدحها وتوجها وجعلها معروفة لكل المسكونة، ثم بعد ذلك
حقَّق طلبها بإحسان عظيم لقد قال لها: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ
لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ"
(مت28:15).
يتأخر
الله عن تتميم الطلب لكي يمجد الطاِلب[3]
لكي
نعلم أنه لا يريد فقط أن يُحسِن إلينا ويمنحنا عطاياه، بل يريد أن يجعل هؤلاء
الذين ينالون المكافآت مشهورين، لاحظ ما فعله أيضًا في حالة المرأة الكنعانية،
لأجل هذا تأخر لكي لا يتمم فقط طلبها بل أيضًا لكي يجعلها معروفة في كل المسكونة.
عندما
إقتربت منه تلك المرأة متوسلة وقائلة: " وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ
خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ،
يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا»" (مت22:15)، الرب
الرؤوف والمُحِب للبشر الذي يستجيب دائمًا لتوسلاتنا، لم يقبل حتى أن يجيب عليها. لكن التلاميذ وهم لا يعرفون
ماذا سيحدث وأن المسيح من منطلق إهتمامه بالمرأة لا يريد أن يبقي كنزها مخفيًا،
لأجل هذا لم يرد عليها، وكما لو أنهم أكثر رحمة إقتربوا إليه وترجوه قائلين: " فَلَمْ
يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا،
لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!»" (مت23:15)، لقد عبروا عن أنهم لا يستطيعون أن يتحملوا
صراخها. قالوا "إصرفها" ليس لأنها تعاني كثيرًا ولا لأنها عن حق تصرخ بل
"لأنها تصيح وراءنا" (مت23:15).
ماذا
فعل الرب؟ لأنه أراد أن يكشف كنزها تدريجيًا ويعلمهم كم هم بعيدين كثيرًا عن محبته
للبشر، أعطي إجابة كانت قادرة علي تعكير ذهنها ـ لو لم تكن لها نفس شديدة البأس
وشوق عظيم وإستعداد هائل ـ وقادرة أيضًا علي إبعاد أولئك الذين توسلوا لأجلها.
لأنه قال: " فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى
خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»" (مت24:15). بهذا القول أوقف التلاميذ توسلاتهم لأجل
المرأة، لكن تلك لم تفقد شجاعتها بل أصرت بالأكثر علي توسلها. لأن مثل هذه، هي
النفس التي هي مملوءة بالألم وتصلي بحرارة. لا تلتفت هذه النفس تجاه ماذا يقولون،
بل لديها هدف واحد، كيف تحقق ما تصبو إليه. هذا ما فعلته هذه المرأة، لأنها حين
سمعت هذا الكلام، قالت أيضًا "يا سيد أعني" (مت25:15) لكن لاحظ أيضًا
حكمة الرب. لم يساعدها بل رد عليها برد مقتضب وحاسم. لأنه يعرف شجاعة المرأة ولم
يرد أن يُحسن إليها في الخفاء. لقد كان يريد أن يتعلم تلاميذه من طريقة مثابرتها
في طلبها بأنه طويل الأناة، ويعرف الآخرون كم عظيمة هي القوة التي تأتي من الإصرار
في الصلاة وكم عظيمة هي فضيلة المرأة إذ أنه أجاب وَقَالَ:« لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ
خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب»" (مت26:15).
عند
هذا الحد، أرجوك أن تلاحظ صبر المرأة أقصد كيف أن لديها إستعداد هائل وكأن لها
أجنحة من جراء إيمانها بالله، وكأنها قد شقت أحشائها من محبتها الكثيرة لإبنتها
ولم تقاوم الأقوال التي قالها المسيح لها بل حين سمعت لفظة "الكلاب"
قبلتها وإعترفت بأنها علي نفس المستوي لكي تتخلص مِن إدراجها في قائمة الكلاب
وتُسجَّل في قائمة البنين.
حسنًا،
إسمع ماذا حدث لهذه المرأة لكي تعلم كم المكاسب العظيم الذي نتج من إصرارها. لأن
صعوبة أقوال المسيح ليست فقط أعاقت المرأة عن أن تتوسل إليه بل جعلتها أكثر
إصرارًا.
أي
عندما سمعت هذه الأقوال، قالت: " فَقَالَتْ:«نَعَمْ،
يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ
مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!» " (مت27:15).
هل
رأيت كيف أن الله أظهر تأخره في الإستجابة وطول أناته عالي هذا الحد؟ لكي نعرف
بأقوالها هذه ورد فعلها، إيمانها الفائق. فأنظر بأي طريقة توجّها مباشرةً الرب، إذ
قال: "يا إمرأة عظيم إيمانك" (مت28:15). لقد كان إيمانها عظيم حقًا لأنه
بالرغم من أنها رأت مرةً ومرتين ومرات كثيرة أن الرب ظلَّ غير مبالي بتوسلها، لم
تيأس ولا توقفت عن التوسل بل بإصرارها الشديد نجحت في تحقيق ما كانت تريده. إذ قال
لها المسيح: "ليكن لك ما تريدين" (مت28:15).
أرأيت
الآن أنه يعطي بغني عطاياه بالرغم من أنه في البداية لم يرد أن يجيبها؟ لم يحقق
ببساطة ما طلبته بل أثني عليها وتوجها. وبتعبيره "يا إمرأة" أظهر كم هو
عظيم إيمانها، وبقوله "عظيم إيمانك" أعلن لنا كنزها الروحي. ثم قال لها:
"ليكن لكِ كما تريدين".
ما
ترغبه وما تريده سوف يمنحه لك. لأن صبرك يجعلك جدير بأن يحقق ما تريده.
هل
رأيتم عزيمة المرأة؟
هل
رأيتم طول أناة الله وأنه يتأخر في إستجابته لأنه يريد أن يمجدها بالأكثر؟
( يتبع )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق