فليتصاغر
إذًا أمام عيوننا، الوطن والعشيرة والبيت العائلى والتكالب على الخيرات الأرضية :
القديس كيرلس عمود الدين – العبادة بالروح
والحق – المقالة الأولى – ترجمة د جورج عوض
[ فكما أن التلوث يصيب كل من النفس
والجسد، هكذا فإن التطهير سيكون شيئًا سهلاً لكل من النفس والجسد أيضًا. أما كون
حب الحياة العالمية هو غريب بالنسبة لهؤلاء الأتقياء الذين يشعرون بغربتهم تجاهه، فمن المفيد لهم أن لا يواجهوا هذا الحب
برخاوة. ولو طلب أحد مثالاً، فليأخذ إبراهيم مثالاً لهذا الأمر، إذ قال
الله له: " اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التى أُريك.
فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك. وتكون بركة وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه.
وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تك1:12ـ3). أفهمت إنه لم يأمره بأن يرحل
عن الأرض والوطن فقط ولكن عن أهله وعشيرته وعن بيت أبيه، ويذهب إلى الأرض التى سوف
يريه إياها ؟.
وأيضًا بعد كل ما سبق إيضاحه، هل
سيكون غير واضح أن الله عندما يدعو أناسًا لكى يتبعوه روحيًا، يريد أن يبعدهم عن
حياة العالم، وأيضًا بعيدًا عن حياة الملذات وحُب الجسد، هؤلاء أراد الله أن
يكرمهم، فهل هناك شئ أفضل من هذا؟
فليتصاغر إذًا أمام عيوننا، الوطن والعشيرة والبيت العائلى والتكالب على الخيرات
الأرضية. لذلك قد دعانا مخلصنا نفسه أن نُظهر صلابة مماثلة قائلاً: " مَن
أحب أبًا أو أمًا أكثر منى فلا يستحقنى ومَن أحب ابنًا أو ابنة أكثر منى فلا
يستحقنى. ومَن لا يأخذ صليبه ويتبعنى فلا يستحقنى" (مت37:1ـ38)، ويضيف
قائلاً: " وكل مَن ترك بيوتًا وإخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو
أولادًا أو حقولاً من أجل اسمى يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية " (مت
29:19). ألست تقبل أن هذا الأمر هو نتيجة فاعلية قوة المسيح، وليس نتيجة الصلابة
الفائقة؟ وماذا تعتقد: هل حب الأب والأم والوطن أمر عديم النفع، بينما تبعية
المسيح هو أمر واجب وضروري؟ ..........
انتبه، فإن أولئك الذين يتبعون الله
بكافة الطرق، واضعين الجسديات والاستمتاع العالمى (في مرتبة) بعد الرجاء في
المسيح، هؤلاء سينالون التمتع بالنعم والبركات السماوية. واسمع ماذا يقول لابرآم؟
" سأجعلك أمة عظيمة وسأباركك" (تك2:12)، معطيًا إياه كل ما يتعلق
بهذا الوعد. أرأيت إذًا كم هو مقدار الخيرات الروحية المذخّرة له؟ أليس من الجدير
أن نرى ونعرف بأى طريقة خرج إبرام من الأرض التى وُلد فيها؟ إذ يقول: " فأخذ
إبرام ساراى امرأته ولوط ابن أخيه وكل مقتنياتهما التى اقتنيا والنفوس التى امتلكا
في حاران. وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان. فأتو إلى أرض كنعان. واجتاز إبرام في
الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة. وكان الكنعانيون حينئذِ في الأرض" (تك5:12ـ6).
لقد خرج من حاران دون أن يترك أى أثر خلفه، ومعه كل عشيرته وأهل بيته. انتقل
مستعدًا ومُجهزًا للرحيل إلى أرض كنعان التى أراها الله له. ثم بعد ذلك اخترق
الأرض بطولها وأتى إلى أرض جبلية عالية. وهكذا فإن مَن أراد أن يتبع التعاليم الإلهية بإيمان ويكون مستحقًا
للدعوة السماوية، متمتعًا بعناية الله الفائقة، فليخرج تمامًا من حياة الملذات
العالمية، كأنه يخرج مع كل عشيرته دون أن يترك أية بقية من الاهتمام الذى كان لديه
من قبل. إذ بهذه الطريقة يكون هروبه هروبًا حسنًا، إذ قد دُعى من الله.
وكما كتب بولس الطوباوى، يمكنه أن يدرك، مع كل القديسين ما هو العرض والطول والعلو
والعمق لسر المسيح. وعندئذِ سيُسرع جدًا نحو الأرض العالية المرتفعة أى المؤسسة
على الفضائل، إذ لا شئ يسقطها في محبة الجسد. ولكن عندما وصل أبرام إلى هذا المكان
ماذا وجد من صالحات؟ هذا سنعرفه من نفس الكتب المقدسة لأنه يقول: "وظهر
الرب لإبرام وقال لنسلك أعطى هذه الأرض، فبنى هناك مذبحًا للرب الذى ظهر له"
(تك7:12). أى كان في وطنه، أُعطِىَ له الأمر النافع الوحيد، أنه يجب أن ينتقل إلى
أرض أخرى، مهاجرًا من وطنه. لكن عندما وصل إلى أرض كنعان ومعه كل عائلته
واحتياجاته، وصعد إلى الأرض المقدسة، أُعطيت له نعمة الرؤية الإلهية وثقة الرجاء
في الحرية الثابتة، ثم التصريح له بعد ذلك
ببناء مذبح.
ونحن أيضًا وللسبب نفسه، سوف لا يكون
لنا أية نعمة من الله لو بقينا داخل العالم وفي ملذاته المقززة. أما عندما نُدعى
من الله ونطيع الأوامر الإلهية، صاعدين كأنما إلى أرض عالية إلى الشوق والرغبة في
كل صلاح، يضع الله داخلنا معرفة المجد ذاته الذى له، ويعدنا بالرجاء الثابت. هكذا
يجعل ذهننا مهيئًا لكى نستطيع أن نقدم ذبائح روحية (1بط 5:3)، ونصير رائحة المسيح
الذكية لله الآب بحسب المكتوب (2كو 15:2)، وهكذا نقدم له جسدنا ذبيحة حية ومرضية
إلى الله، العبادة العقلية والروحية لأنه يقبل بفرح كل صور عبادتنا الروحية
معتبرًا إياها ذبائح روحية (رو1:12) ]. [ العبادة بالروح والحق – المقالة الأولى ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق