شفاء المولود أعمى(1)
القديس يوحنا ذهبي الفم
ترجمة د جورج عوض
”وفيما هو مجتازٌ رأى
إنساناً أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه يا مُعلم مَن أخطأ هذا أم أبواه حتى
وُلِدَ أعمى؟”
(يو9: 1ـ 2)
”وفيما هو مجتاز رأى إنساناً أعمى منذ ولادته”.
فلأنه محبٌ جداً للبشر، ويعتني دائماً
بخلاصنا، وقد أراد أن يغلق أفواه الرعاع، لا يفوته أن يصنع ما يليق به أن يصنعه
حتى ولو لم ينتبه المرء إلى وجوده. وهذا ما كان يعرفه جيداً النبي حين قال: " لكي تتبرر في أقوالك، وتزكو في
فضائلك" (مز51: 4). لأجل ذلك، ولأنهم لم يقبلوا المفاهيم
السامية لأقواله، بل وصفوه بأن به شيطاناً، بل وشرعوا في قتله حين خرج من الهيكل (راجع يو8: 58)، فعندما شفىَ
الأعمى، سكَّن غضبهم بغيابه؛ لأنه انصرف بعد ذلك، وبصنعه للمعجزة ليَّن قساوتهم
وجحودهم، وجعلهم مؤمنين بكلامه.
والمعجزة
التي صنعها لم تكن وليدة الصدفة، وإن كانت وقتذاك قد حدثت لأول مرة. فكما هو مكتوب
"منذ الدهر لم يُسمع أنَّ أحدًا فتَّح عيني مولودٍ أعمى" (يو9: 32). فهل فتَّح
شخصٌ ـ حتذاك ـ عيونَ مولود أعمى؟ ليس بعد. فإذ خرج من الهيكل أتي عن قصدٍ، ليصنع
معجزةً صارت ظاهرةً كالآتي: لقد رأى المسيحُ الأعمى، في الوقت الذي لم يكن الأعمى
قد تحرَّك نحوه. لكن المسيحَ رمقه بنظرةٍ أثارت انتباه التلاميذ، الأمر الذي دعاهم
إلى أن يسألوا المسيح، إذ لاحظوا أنه ينظر إليه باهتمام، قائلين: " يا
معلِّم مَن أخطأ. هذا أم أبواه حتى وُلِدَ أعمى؟".
لا شك
أن هذا السؤال، سؤالٌ خاطئ؛ لأنه كيف يمكن له أن يخطئ قبل أن يُولد؟ ولماذا يعاقَب
هو إذا كان والداه قد أخطئا؟
إذن،
لماذا سأله التلاميذ هذا السؤال؟
قبل أن
يصنع المسيح هذه المعجزة، كان قد شفى المشلول (مريض بركة حسدا)، وكان قد قال له:
"ها أنت قد برئت فلا تعد تخطئ" (يو5: 14). إذن فقد أدرك التلاميذ أن المشلول
كان قد صار مريضاً هكذا بسبب خطاياه، فكأن لسان حالهم يقول له: إذا كان هذا
المشلول قد صار مريضًا هكذا بسبب خطاياه، ماذا عن هذا المولود أعمى، هل أخطأ أيضًا؟
إذا كان
هذا يصح بالنسبة للمشلول، لكنك في هذه الحالة لا تستطيع أن تقول نفس الأمر؛ لأنه
مولودٌ أعمى منذ ولادته. إذن، هل أخطأ والداه؟ ولا هذا أيضًا؛ لأن الطفل لا
يُعاقَب لأجل خطايا أبيه. إذا رأى أحدكم طفلاً ما، كان في حالة مزرية، فماذا يمكنه
أن يقول عن هذا الطفل؟ هل يسأل عما فعله هذا الطفل؟ أبداً، وإنما دون أن ندخل في
تفاصيل، نحن نعبِّر بكل ما نقوله عن حيرتنا. هكذا التلاميذ لم يقولوا هذا الكلام
في صيغة سؤال يحتاج إلى إجابة، لكن تعبيرًا عن حيرتهم.
ماذا
أجاب المسيح؟ " لا هذا أخطأ ولا أبواه" (يو9: 3). ولأنهم لم يقولوا ببساطة "هل
هذا أخطأ أم أبواه؟"، وإنما أضافوا "حتى وُلِدَ أعمى"،
لم يقل أنا أخلصهم من خطاياهم لكي يتمجد ابن الله؛ فقد أخطأ هذا ـ بالتأكيد ـ بل
وأبواه أيضًا، لكن العمى لم ينتج عن هذا السبب. وهو لم يقل هذه الأقوال لكي يُظهر
هذا، أي لكي يُظهر أن هذا لم يُصَب بالعمى من جراء هذا السبب، بينما آخرون أصابهم
العمى نتيجة خطايا والديهم، طالما انتهينا إلى أنه لا يمكن أن يخطئ أحدٌ ويعاقب
الآخر؛ لأننا لو قبلنا هذا، سنكون ملزمين بالضرورة أن نقبل الفرضية الأخرى، أي أنه
أخطأ قبل أن يُولَد.
إذن،
عندما قال: " لا هذا أخطأ"، لم يكن يقصد إمكانية أن يخطئ قبل
ولادته، وهو لذلك يُعاقَب. ويسرى هذا أيضاً على قوله: "ولا أبواه"،
فهو أيضًا لا يقصد أنه يمكن أن يعاقَب بسبب أبويه، خصوصًا وقد أُلغيَ هذا الأمر
بواسطة حزقيال النبي "ما لكم أنتم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل
قائلين الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست. حيّ أنا يقول السيد الرب لا يكون
لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل" (حز18: 2ـ3). وموسى يقول: " لا يُقتل
الآباء عن الأولاد ولا يُقتل الأولاد عن الآباء" (تث24: 16). وعن ملكٍ
(أمصيا بن يوآش ملك يهوذا) قيل: " إنه لم يقتل أبناء القاتلين حسب ما هو
مكتوب في سفر شريعة موسى" (2مل14: 6). فإذا قال أحدكم كيف إذن قيل: " أفتقد ذنوب
الآباء في الأبناء وفي الجيل الثالث والرابع من الذين يبغضونني" (تث5: 9)، يمكننا أنْ
نقول إنَّ هذا القرار لم يُقَل للكل، لكن لأولئك الذين خرجوا من مصر. وكان بقصد
الآتي: لأن هؤلاء الذين خرجوا من مصر قد صاروا ـ بعد أن رأوا علامات ومعجزات ـ
أسوأ من أجدادهم الذين لم يروا أيًا من هذه العلامات أو المعجزات، فإنهم يعانون
نفس الآلام التي عاناها أولئك لأنهم صنعوا نفس الأخطاء. أمَّا كون أن هذه الأقوال
قد قيلت لأولئك، فيمكن للمرء أن يتحقق منه إذا راجع مقطع الكتاب بدقة.
إذن، ما
هو سبب ولادته أعمى؟ "لتظهر أعمال الله فيه (مجد الله)". تواجهنا هنا
أيضاً حيرة أخرى! ألا يمكن أن تظهر أعمال الله (مجد الله) دون عقاب هذا؟ هو
بالتأكيد لم يقل إن هذا ممكنًا، لكن لكي "يظهر في هذا". ماذا! هل ظُلِم
إذن لأجل مجد الله؟ عن أي ظُلمٍ تتكلم؟ أخبرني؛ فلو كان قد أراد أن يظلمه، ما كان
قد جاء به للحياة. لكني أقول: لقد أقامه من العمى بما أنه رآه بالأعين الداخلية[1].
وهذا ما
يجعله مختلفًا عن اليهود، لأنه ما الفائدة التي عادت على اليهود وقد كانت لهم أعينًا
جسديةً؟ لقد عوقبوا بالأسوأ لأن أعينهم الداخلية كانت قد صارت عمياء. أيٌ ضررٍ
إذن، أصاب المولود أعمى، وقد أبصر رغم عماه؟ إن شرور الحياة الطبيعية لا تحتسب من
قبيل الشرور، هكذا أيضًا الصالحات ليست صالحات، فالشر هو فقط الخطية، بينما العمى
ليس شرًا. فالله الذي جاء به إلى الحياة من اللاوجود، أي من العدم، كان يمكن أن
يتركه هكذا.
ويقول
البعض إنهم لا يرون في تعبير " لتظهر أعمال الله فيه (مجد الله)"
أي تبرير سببي يفسِّر حالة المولود أعمى، بقدر ما يُعبِّر عن النتيجة، وذلك قياسًا
على ما قاله المسيح: " لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا
يبصرون، ويعمى الذين يبصرون" (يو9: 39). فالمسيح لم يأتي بالتأكيد لهذا السبب، أي لكي يبصر
العميان أو يعمى المبصرون. وأيضًا مثلما يقول القديس بولس الرسول: " إذ
معرفة الله ظاهرة فيهم؛ لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق
العالم... حتى أنهم بلا عذر" (رو 1: 19ـ20)، فبالرغم من أنه لم يكشف عن ذاته لهؤلاء، لأجل هذا السبب،
أي لكي لا يجدوا ما يدافعون به عن أنفسهم، بل العكس. وفي موضع آخر أيضًا يقول:
" وأمَّا الناموس فدخل لكي تكثر الخطية" (رو5: 20)، فالناموس لم
يدخل في حياة البشر لهذا السبب، بل لكي يعيق الخطية.
هل رأيت
أن التحديد في كل الحالات السابقة، إنما يُؤكد على النتيجة؟ فهو هنا مثل بنَّاءٍ
ماهر، بنى جزءًا من البيت، أمَّا الجزء الآخر فقد تركه ناقصًا، حتى إذا ما أكمل
البناء أمام أعينهم، يتأكدون من إتقانه لفن البناء، وإنه هو مَن بنى البيت، وبذلك
يقدم دليلاً ضد هؤلاء الذين لا يؤمنون بكل عمله. فهكذا، مثل مسكنٍ على وشك السقوط،
يُرمم الله جسدنا ويكمِّله: يشفي اليد اليابسة، يعطي حياةً للأعضاء المشلولة، يشفي
العُرج، يطهِّر البُرَّص، يشفي المرضى، يجعل المشلولين معافين (أصحاء)، يعيد
الحياة للأموات، يفتِّح أعين العميان، يمنح عيونًا لأولئك الذين لم يكن لديهم، لقد
قوَّم كل هذه العيوب، والنواقص التي كانت، والأمراض التي أصابت الطبيعة البشرية،
وبذلك أظهر قوته.
قال:
" لتظهر أعمال الله فيه (مجد الله)"، وهو هنا يقصد ذاته لا الآب؛
لأن مجد ذاك كان ظاهرًا. إذن، بما أنهم سمعوا أن الله خلق الإنسان عندما أخذ من
طين الأرض، لذلك خلق المسيح ـ بنفس الطريقة ـ أعين الأعمى، وكأنه يقول: أنا هو
الذي أخذ من تراب الأرض، وخلق الإنسان، وهنا بدا وكأنه كدَّر صفو سامعيه، فاكتفى
بما سببه لهم من إزعاج.
إذن،
فقد أخذ المسيح من تراب الأرض ومزجه بالتُفل، وأظهر بفعله هذا مجده المستتر؛ لأنه
لم يكن شيئًا هيِّنًا أن يُرى على أنه خالق الخليقة. ولم يقتصر الأمر على هذا
العمل، بل تتابعت أمورٌ أخرى صار بها الجميع مؤمنين؛ لأن الإيمان بعمله الأعظم،
يؤكِّد قدرته على فعل الأصغر. وبما أن الإنسان هو أثمن من كل كائنات الخليقة،
والأعين هي أثمن أعضاء الجسد، لذلك أعطى النور للعين ليس هكذا ببساطة، لكن بذات
طريقة الخلق؛ لأن العين، بالرغم من أنها عضوٌ صغير في الحجم، إلاَّ أنها العضو
الأكثر استخدامًا من كل أعضاء الجسد، وهذا ما أعلنه بولس حين قال: " وإن
قالت الأذن لأني لست عينًا لست من الجسد. أفلم تكن لذلك من الجسد" (1كو12: 16)؛ فإن كانت كل
أعضاء جسدنا برهانًا لحكمة الله، فبالأكثر جدًا تكون العين، طالما أنها تحكم كل
الجسد، فهي تمنح الجمال لكل الجسد، وتزين الوجه. إنها مصباحٌ لكل الأعضاء؛ لأن
العين للجسد، مثل الشمس للمسكونة. فإذا أطفأت الشمس، فالكل يهلك ويتغير مسار الكل.
هكذا لو أطفأت الأعين، فلا الأرجل تُستخدم، ولا الأيدي، بل ولا أعضاء النفس أيضًا؛
لأننا إذا كنا نعرف الله عن طريق أعضاء النفس، فإننا ـ إن لم نستخدم هذه الأعضاء ـ
نفقد القدرة على هذه المعرفة " لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق
العالم مُدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر" (رو1: 20). وبالتالي
ليست العين هي فقط، مصباحٌ للجسد، لكن هي أكثر أعضاء الجسد مصباحٌ للنفس أيضًا،
لذلك وُضِعَت في مكانٍ ملوكي في أعلى جزء من الجسد، وتُشرف على كل الحواس. هذه
العينُ إذن، خلقها.
ولكي لا
تظن أنه كان في احتياج إلى المادة عندما خلق، ولكي تعلم أنه حتى لم يكن يحتاج إلى
الطين منذ البداية؛ جاء للوجود بما هو أكثر من الجسد، أي بالجوهر الأكثر أهمية (أي
النفس)، والذي لم يكن موجودًا، والذي بالأكثر جدًا خلقه دون احتياج للمادة. إذن،
عليك أن تعلم أنه لم يفعل هذا الأمر عن احتياج، لكن لكي يُعلِّم الناس أنه الخالق
الأول (للخلق الأول)، مسح الطين على العينين. وقال "أذهب وأغتسل": لكي
تعرف أنه ليس لي احتياج للطين لكي أُفتِّح الأعين، بل لكي يظهر مجدي بفعلي هذا.
وكونه
يتحدثُ عن ذاته، يصير واضحًا من أنه بعد أن قال :"لكي تظهر أعمال الله
فيه"، أضاف " ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار"
(يو9: 4). بمعنى أنه
ينبغي عليَّ أن أُظهر ذاتي، وأن أعمل تلك الأعمال التي يمكن أن تبرهن على أنني
أعمل نفس الأعمال مع الآب، ليست الأعمال الشبيهة، بل نفسها، الأمر الذي يُظهر
بدرجة عظيمة إن أعماله هي ذات أعمال الآب، ولا تختلف عنها إطلاقًا. مَن إذن، يمكنه
أن يشك في إنني أراه يستطيع أن يعمل نفس الأعمال مع الآب؟ لأنه لم يخلق فقط
الأعين، ولا فتَّحها فقط، بل منحها البصر، الأمر الذي يعني أنه نفخ نفسًا في العين
التي لم تكن تبصر، فبالرغم من أنها كانت موجودة شكليًا إلاَّ أنها لم تكن تبصر
إطلاقًا، وهكذا منحها قوة الحياة، وزوَّد العضو بكل شيء، شريان وأعصاب وأوردة ودم
وكل الأشياء الأخرى التي تتكون منها أجسادنا.
" ينبغي
أن أعمل ما دام نهارٌ". ما الذي يمكن أن نفهمه من هذه الأقوال؟ وما هي
أهميتها؟ أهميتها شديدة على كل الأحوال. وتتبدى هذه الأهمية كالآتي: "مادام
نهارٌ" فيه يستطيع الناس أن يؤمنوا بى، وتكون فيه الحياة مستمرة، إذن ينبغي
أن أعمل.
"يأتي
ليلٌ"، أي الدهر الآتي "حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل". لم
يقل حيث أنا لا أستطيع أن أعمل، بل "حين لا يستطيع أحدٌ أن يعمل"،
أي في الوقت الذي لا يكون فيه الإيمان متاحًا، ولا الأتعاب ولا التوبة. أمَّا كون
أن الإيمان يُدعىَ عملاً، فهذا ما نفهمه من السؤال الآتي: " ماذا نفعل حتى
نعمل أعمال الله" (يو6: 28)، أجاب: "هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو
أرسله" (يو6: 29). إذن، كيف لا يمكن لأحد أن يأتي هذا العمل حين ذاك؟ لأنه ـ حينذاك ـ لا
يكون الإيمان مطروحًا كعملٍ يمكن أن يأتيه أحد، بل ـ فقط ـ يسمع الكل سواء أرادوا
أم لم يريدوا.
ولكي لا
يقول أحدٌ: إنني أعمل هذا من أجل محبة المجد، يُظهر هو (أي المسيح) أنه يعمل كل
الأعمال لعنايته بهؤلاء الذين لهم المقدرة ـ فقط ـ هنا على الأرض أن يؤمنوا، ولا
يستطيعون هناك أن يجنون أية فائدة. لذلك لا يجب علينا أن نرفض الإيمان هنا على
الأرض، بل نتمثل بالأعمى.
فقد كان
مستحقًا للشفاء، لأنه لو كان يبصر، لكان قد آمن، وكان قد أتى، وما كان قد بدا
وكأنه غير مبالٍ، حتى لو كان قد سمع من مجرد شخصٍ كان هناك، ويظهر هذا واضحًا من
رجولته وإيمانه، لأنه كان يمكن أن يفكر في نفسه ويقول: ما أهمية هذا في آخر الأمر؟
لقد صنع طينًا ومسح به عينيَّ، ثم قال لي: "اذهب واغتسل"، فإذا لم يكن
يمكنه أن يشفي، لماذا بعد هذا يرسلني إلى بركة سلوام؟
لقد سبق
له أن اغتسل مرات كثيرة مع آخرين كثيرين، ولم يجني أية فائدة. إن كان لدى أحدٌ
قوةً، يمكنه أن يشفي للتو. وذلك مثلما قال أليشع لنعمان، الذي إذ كان قد أخذ أمرًا
بالاغتسال في الأردن، تردد، رغم أن أليشع كان يتمتع في الوقت بسمعة طيبة (راجع 2مل5: 10ـ 11). لكن الأعمى لم يتردد، ولا تشكك، ولا فكَّر في داخله: ما أهمية هذا في آخر
الأمر؟ أكان يجب أن يمسح عينيَّ بالطين؟ إن هذا يعمي بالأكثر. مَن أبصر بواسطة هذه
الطريقة من قبل؟ لم يفكر بكل هذا. هل رأيت إيمانًا ثابتًا واستعدادا راسخًا مثل
هذا؟
"يأتي
ليلٌ". يعني بهذا إن عنايته بالفُجَّار سوف تستمر بعد صلبه، وسوف يرجع كثيرون
إلى الإيمان؛ لأنه ما زال نهار. بعد هذا يبعدهم تمامًا فى الدهر الآتى إذا رفضوا
الإيمان وهم فى الحياة الحاضرة.
وأريد
أن ألفت نظركم لهذا: إذا كان قد قال: "ما دمت في العالم، فأنا نور العالم"،
وقال لآخرين: "مادام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور"
(يو12: 36)، فلماذا يسمي
بولس الحياة الحاضرة ليلًا، أو اليوم الآتي؟ لا يتعارض هذا مع ما قاله المسيح، فهو
هنا يقول نفس القول، وإن لم يكن بذات الألفاظ، فبنفس المفهوم. فعندما يقول: "
د تناهى الليل وتقارب النهار" (رو13: 12)، فهو يعني أن الحياة الحاضرة تُدعى
ليلاً بالنسبة لأولئك الجالسين في الظلمة، فهو هنا يقارن الليل بالنهار. وبينما
يدعو المسيحُ الحياةَ الآتية ليلاً لأنها تخلو من مغفرة الخطايا، يدعوها بولس ليلاً
من أجل هؤلاء العائشون في الظلمة، والذين يحيون في الظلمة وعدم الإيمان. ولكنه حين
يتوجه بكلامه ناحية المؤمنين يقول: " قد تناهى الليل وتقارب النهار"،
وذلك لأنهم سيستمتعون بذلك النور. وهو يدعو الحياة القديمة ليلاً؛ لأنه يقول:
" فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور" (رو13: 12).
هل رأيت بأي معنى يقول لأولئك أنه ليلٌ؟ لذلك وبنفس
الطريقة يقول لنا: " لنسلك بلياقة كما في نهار" (رو13:13)، لكي نستمتع
نحن بذلك النور. ويمكننا أن نعرف مدى جمال هذا النور إذا تأملنا عظمة نور الشمس
قياسًا بنور مصباح، فكم بالأكثر جدًا يكون النور الإلهي أعظم من نور الشمس؟ ولكي
يعلن هذا قال: " تظلَّم الشمس" (مت 24: 29)، بمعنى أنه بسبب ذلك البهاء الوفير
لا يمكن للشمس أن تظهر[2].
وإن كنا نستدين أمولاً لا تحصى من أجل أن نبني بيوتًا
منيرةً وجيدة التهوية ونبذل مجهودًا كبيرًا من أجل هذا الأمر، فعلينا إذن أن نفكر
فيما يمكن أن نقدمه من أتعاب كي نبني بيتًا بهيًا في ملكوت السموات، حيث يوجد
النور الذي لا يوصف. وبينما تنشأ هنا المعارك والمشاحنات من أجل الحدود والحوائط،
لا يوجد هناك شيء من مثل هذا، فلا حسد، ولا التفوه بكلام سيئ، ولا يتعارك معنا أحد
لأجل حدود الممتلكات. وإذا كنا سوف نترك هذا البيت مجبرين على أية حال، لكننا دائمًا
ما نكون في مسكننا السماوي هناك. هنا هذا البيت ـ بمرور الزمن ـ ينهار ويعاني من
آلاف الأضرار، بينما ذاك (السماوي) يبقى في غير فساد إلى الأبد، وهذا البيت (هنا)
لا يستطيع الفقير أن يبنيه، بينما ذاك يمكن أن يبنيه بفلسين مثل الأرملة. لذلك
نحزن حزنًا فائقًا؛ لأنه، بالرغم من أنه توجد خيرات كثيرة أمامنا إلاَّ أننا
نتكاسل ولا نبالي، وبينما نبذل أقصى جهد لكي يكون لدينا بيتًا بهيًا هنا، لا نبالي
ولا نهتم ولا ننشغل بالحصول على مسكن في السماويات حتى لو كان مجرد خيمة صغيرة.
اخبرني إذن، أين تريد أن تأخذ مسكنًا هنا؟ أفي الصحراء
أم في مدينة من المدن الصغيرة؟ أنا لا أعتقد في هذا، لكن أظن أنك ـ على الأقل ـ
تريد أن تأخذ في المدن الملكية والعظيمة حيث يوجد بالأكثر تجارةً وغنىً عظيمًا.
لكن أنا أقودك إلى مدينة مثل هذه التي صانعها وبارئها هو الله. هناك ـ من فضلك ـ
سوف تبني مبنىً بأموال قليلة وبأقل تعب؛ لأن ذلك المسكن تبنيه أيدي الفقراء، قبل
كل شيء. أمَّا ما يحدث الآن، فهو أمثلة للجنون الفظيع. شخصٌ يقتادك إلى أرض
فارسية، ويشير عليك أن تبني مسكنًا هناك، ألست تظهر حماقة سيئة بالبناء في أرض
غريبة، فضلًا عن أن ذلك يجعلك تقترض بلا هدف؟ كيف إذن تفعل هذا الأمر في الأرض
التي سوف تهجرها بعد قليل؟
قد تقول سوف أتركه لأولادي من بعدي. لكن حتى أولئك
الأولاد بعد قليل من بعدك سوف يهجرونه، وقد يحدث ذلك قبلك، وبعدها أنت بقليل، وهذا
الأمر يحدث بسبب الإحباط عندما لا ترى ورثتك يسكنونه. لكن هناك في السماء لا يحدث
مثل هذا الأمر على الإطلاق، فلا تخف، بل يبقى ثابتًا هذا الذي تناله لك ولأولادك
ولأحفادك إذا عاشوا نفس الفضيلة. هذا المسكن يبنيه المسيح. هذا المسكن ليس ضروريًا
أن تعيِّن مشرفين عليه، ولا تحمل همه ولا تعتني به؛ لأنه عندما يأخذ الله على
عاتقه هذا الأمر فما هي ضرورة الاهتمام؟ ذاك الذي يجمع الكل ويبني المسكن. وليس
هذا فقط ما يثير إعجابك، لأن الله هكذا يبنيه، كما تريد وكما يعجبك؛ فهو فنان عظيم
يعتنى ويحرص جدًا على مصلحتك. وإذا كنت فقيرًا وتريد أن تبني هذا المسكن فلا أحد
يحسدك، ولا يتفوه بكلام سيئ عليك لأن لا أحد يراه من أولئك الذين يحسدون، لكن
الملائكة التي تعرف أن تفرح معك لحصولك على هذه الخيرات. لا أحد يستطيع أن يتسلط
عليه؛ لأن لا أحد يسكن بالقرب منه مِن هؤلاء الذين يعانون من مثل تلك الأمراض.
جيرانك هناك هم القديسون، بولس وبطرس وكل الأنبياء والشهداء، حشد الملائكة ورؤساء
الملائكة.
حسنًا، إذن، تعالوا نقدم كل ما لدينا من موجودات في هذه
الحياة للفقراء لكي نفوز بتلك الخيام التي نتمنى أن يفوز بها جميعنا بنعمة محب
البشر ربنا يسوع المسيح له المجد مع الآب والروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.
(2)
”قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى عيني الأعمى. وقال له
اذهب واغتسل في بركة سلوام”
(يو9: 6 ـ 7)
هؤلاء الذين يحصلون على فائدة ما من
القراءات يجب ألاَّ يبتعدوا ولو قليلاً جدًا عن ما قيل؛ لأنه لأجل هذا أخذنا على
عاتقنا وصية تفسير الكتب المقدسة؛ لأن أغلبية الكتب، بالرغم من أنها مفهومة
مباشرةً، إلاَّ أنها تحتوي على مفاهيم كثيرة مستترة في الأعماق.
انتبه
إذن، ما هو مفهوم هذا المقطع من الإنجيل؟ فهو يقول: " قال هذا وتفل"
ما هذا الذي قاله؟ لقد قال: " لكي تظهر أعمال الله" (يو9:
3)،
و" يجب أنْ أعمل أعمال الذي أرسلني" (يو9: 4).
لكن الإنجيلي لم يذكر لنا ذلك ببساطة أو كيفما اتفق، بل أضاف "وتفل"،
لكي يعلن لنا أن المسيح يؤكَّد أقواله بأعماله. ولماذا لم يستخدم ماءً على التراب،
بل تَفَلَ؟ لأنه، بما أنه سوف يرسله إلى
بركة سلوام ليغتسل، فقد يعتقد البعض أن قوة الشفاء تكمن في النبع. لكن لكي تعلم أن
القوة التي خرجت من فمه هي القوة خلقت الأعين وفتَّحتها، تَفَل إلى أسفل. وهذا ما
قصد الإنجيلي أن يعلنه، ولذلك قال: "وصنع من التُفل طينًا". ولكي
لا يبدو أن الأرض (الطين) هي مصدر هذا الإنجاز، أعطى أمرًا أن يغتسل.
فلماذا لم يفعل هكذا ابتداءً، بل أرسله إلى
بركة سلوام؟ لأنه أراد أن يكشف مدى إيمان الأعمى، وبالتالي يغلق الطريق على جحود
اليهود؛ لأنه كان من الطبيعي أن يراه الكل آتيًا وعينيه ممسوحةً (مطليةً) بالطين؛
وبهذا التناقض يجذب ناحيته كل الأنظار، الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه. هؤلاء
سوف يضعونه تحت أعينهم، وفي بؤرة اهتمامهم؛ لأنه، وبسبب أنه ليس من السهل أن يؤمن
أحدٌ أنه فتَّح عيني مولود أعمى، جعلهم ـ بواسطة انجذاب الكثيرين لغرابة الموقف –
مسبقًا، شهودًا كثيرين، وشهود عيان للموقف المتباين، حتى يصيروا منتبهين بالأكثر
لكي لا يشكون فيه ويقولون "هذا هو، ليس هو". كما أنه لم يرد أن يظهر ذلك
الأعمى وكأنه غريب عن الناموس والعهد القديم، أرسله إلى بركة سلوام.
وكان من الممكن للأعمى أن يتساءل عن طبيعة
المجد الذي نالته بركة سلوام، طالما أن كثيرين في مرات كثيرة، بالرغم من أنهم
غسلوا هناك عيونهم، إلاَّ أنه لم يحدث لهم شيئًا مثل هذا؟ لكن هناك كانت قوة
المسيح هي التي فعلت كل شيء. لأجل هذا يضيف الإنجيلي التفسير؛ لأنه عندما قال
"سلوام"، أضاف قائلاً: " الذي تفسيره مرسل"، لكي تعلم
أن المسيح هو من شفاه هناك، مثلما يقول بولس بالضبط " لأنهم كانوا يشربون
من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح" (1كو10: 4).
فمثلما الصخرة الروحية كانت المسيح، هكذا سلوام كانت أيضًا روحية.
أنا أعتقد أن الظهور المباغت للمياه هنا
يذكِّرنا بسرٍ خفي. ما هو إذن هذا السر؟ إنه الظهور غير المتوقع، إنه الأمر الذى
صار ويتخطى أى رجاء.
انتبه أيضًا لرأي الأعمى الذي أطاع في كل
شيء، فهو لم يقل: إذا كان التراب أو التُفل هو ما يمنح قوة البصر كاملة لعينيَّ،
فما حاجتي إذن لبركة سلوام؟ أو إن كنت أحتاج لبركة سلوام، ما هي حاجتي للطين؟ لأي
سبب مسح عينيَّ؟ لماذا أمرني أن أذهب لأغتسل؟ إن شيئًا من هذا لم يفكر فيه، ولكن
لأمرٍ واحدٍ كان متأهبًا: أن يطيع كل ما أمره به المسيح، لأن أمرًا واحدًا مما
أمره به المسيح، لم يُعثِره.
وقد
يتبادر إلى ذهن أحدكم أن يقول: كيف أبصر الأعمى عندما وضع طينًا فوق عينيه؟ لن
تسمع منا شيئًا آخر، إلاَّ فقط إننا لا نعرف. وليس هناك عجبًا إن كنا لم نعرف؟ فلا
الإنجيلي عَرِف، ولا الأعمى الذي شُفيَ، لكن إن كان قد عَرِف ما حدث، إلاَّ أنه لم
يدرك الطريقة. وهذا هو ما قاله عندما سُئل: "صنع طينًا وطلى عينيَّ وقال
لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل. فمضيت واغتسلت فأبصرت" (يو9:
10).
أمَّا كيف صار هذا، فهو ما لا يمكن أن يجيب عنه حتى لو سألوه مرات لا حصر لها.
"فالجيران والذين كانوا يرونه قبلاً أنه كان أعمى قالوا أليس هذا هو الذي كان
يجلس ويستعطي. آخرون قالوا هذا هو"؛ لأن اختلاف المظهر الذي نتج عن المعجزة
أدى بهم إلى عدم التصديق، بالرغم من أنه كان قد حدث ما هو أكثر من هذا لكي يؤمنوا.
آخرون قالوا: " أليس هو هذا الذي كان يجلس ويستعطي"، يا لعظمة
محب البشر!! لقد نزل ليشفِ بشغف كبير المتسوِّلين ويغلق بفعله أفواه اليهود؛ لأنه
أظهر نفس العناية ليس فقط بنخبة المجتمع والمشهورين فيه، والرؤساء، لكن
للمهمَّشين؛ لأنه جاء لأجل خلاص الكل.
وما
صار في حالة المشلول، صار أيضًا في حالة الأعمى. فالمشلول لم يكن يعرف من هو الذي
شفاه، ولا الأعمى أيضًا كان قد رآه رأي العين؛ لأنه كان قد ذهب إلى بركة سلوام وهو
بعد ما يزال أعمىً. ولأن المسيح أيضًا كان قد رحل.
دائمًا
ما يرتحل المسيح، ويظل مختفيًا حتى تتخلص المعجزة من أية شبهة تثار حولها؛ لأن
هؤلاء الذين لم يعرفوا من هو، كيف يمكنهم أن يفرحوا ويصفوا ما حدث لهم؟
وبالرغم من أنَّ مَن شُفي لم يكن رحالًا، بل
كان من هؤلاء الذين يجلسون بالقرب من أبواب الهيكل، فقد أظهر الكل شكوكًا فيه.
فماذا يقول هو عن نفسه؟ "أنا هو"، فهو لم يشعر بخجلٍ لعماه السابق، ولا
خاف غضب الشعب، ولا تجنب أن يظهر ذاته ليكرز بمَن أقامه " فقالوا له كيف انفتحت عيناك. أجاب
ذاك وقال إنسانٌ يقال له يسوع". ماذا تقول؟! أيمكن لإنسانٍ أن يفعل مثل
هذا؟ واضحٌ إذن أنه لم يكن يعرف شيئًا عنه منذ البداية " إنسانٌ يقال له
يسوع صنع طينًا وطلى عينيَّ". انتبه إلى أنه يقول الحق. فهو لم يحكي كيف
صنع المعجزة (لأن ما لا يعرفه لا يقوله)، لأنه لم يرَ أنه تفل على الأرض، وإنه طلى
بالطين عينيه، لقد أدرك ذلك بالإحساس واللمس " قال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل"،
والسمع يؤكد هذا. ومن أين عرف صوته؟ من مناقشته مع تلاميذه. وبينما يقول كل هذا
أخذ تأكيدًا بواسطة الأعمال، لكن لم يستطع أن يصف الطريقة التي حدث بها ذلك. لأن
الإيمان لا يحتاج إلى المحسوسات (الحواس) والأمور الملموسة، ولكنه يعتمد بالأكثر
على الأمور غير المنظورة. " فقالوا له أين ذاك. قال لا أعلم".
لقد قالوا له "أين ذاك؟" في غيظٍ وحِدَّةٍ.
ولعلك
تلاحظ تصرف يسوع المعتدل، فهو لم يبقَ بالقرب ممن شُفي؛ لأنه لم يُرِد أن ينال مجدًا،
ولا هو يقوم بالدعاية ليكسب تعاطف الشعب معه. ولاحظ أيضًا إن ما قاله الأعمى قد قاله
حبًا في الحق. لقد أرادوا أن يروا يسوع حتى يقتادونه إلى الكهنة؛ ولأنهم فشلوا في
هذا اقتادوا الأعمى إلى الفريسيين، الذين سألوه بطريقة فظة، وقد ذكر الإنجيلي أنه
كان يوم سبت، وذلك حتى يُظهر توجههم الشرير، والسبب الذي لأجله كانوا يطلبونه، وقد
وجدوا في الأمر دافعًا ليتهموه (ليتهموا المسيح) ويمكنهم هكذا أن يزيِّفوا المعجزة
لتكون مخالفة للناموس. وهو ما اتضح من أنهم بمجرد أن رأوه، لم يقولوا شيئًا آخر
إلاَّ "كيف فتَّح عينيك؟".
لاحظ أيضًا طريقة السؤال، لأنهم لم يقولوا
له كيف أبصرت؟ بل "كيف فتَّح عينيك؟"، لكي يعطوا الأعمى دافعًا لاتهامه
بأنه عمل يوم السبت. لكن هذا الذي كان أعمى يتحدث إليهم في إيجاز كما لو أنهم قد
سمعوا عما حدث؛ لأنه بدون أن يذكر اسمًا ما، أو أنه قال لي اذهب واغتسل، يقول
مباشرةً " طلى عينيَّ وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل".
ويلاحظ أن نية التزييف قد ظهرت جليًا فيما قاله أولئك الذين سألوه عن أي عمل عمله
المسيح في يوم السبت؟ طلى بالطين! عليك أيضًا أن تنتبه إلى كيف أن الذي شُفيَ لم
يضطرب. فعندما تحدثوا معه ـ فى المقابلة الأولى ـ من الأمور التي
حدثت، ولم يلمح خطر ما، لم يكن هامًا جدًا أن يقول الحق، لكن المدهش أنه ـ الآن ـ بالرغم
من أنه لمح خطرًا عظيمًا، فإنه لم يرفض ولم يقل كلامًا مناقضًا لما سبق وأن قاله.
ماذا فعل ـ إذن – الفريسيون والآخرون؟ اقتادوه لكي ينكر، ولكن على النقيض، فذلك
الذي لم يريدوا أن يعرفوه، عرفوه بدقة كبيرة، وهذا هو ما يعانون منه في كل المعجزات
التي أتمها المسيح، والذي سنبينه بوضوح أكثر فيما بعد.
ماذا فعل
الفريسيون؟ " فقال قوم من الفريسيين ـ ليس كلهم، ولكن الوقحين منهم ـ هذا
الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت". آخرون قالوا " كيف
يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات؟" هل رأيت كيف تجذبهم المعجزات؟
لأن هؤلاء هم أنفسهم الذين أرسلوا أناسًا مسبقًا لكي يقتادونه أمامهم، اسمع ماذا
يقولون الآن، فبالرغم من أنهم ليسوا كلهم، بل بما أنهم كانوا من الرؤساء انقادوا
جميعًا للعصيان بسبب محبتهم للمجد. لكن الأغلبية من الرؤساء آمنوا به، وإن كانوا
لم يعترفوا به جهارًا. أمَّا الشعب الكثير، فكان مهمشًا لأنهم لم يشتركوا معهم قي
مجمعهم، أمَّا الرؤساء فلأنهم كانوا معرفين وظاهرين، فكان من الصعب ان تكون لديهم
شجاعة الاعتراف بالمسيح؛ لأنهم كانوا يحبون الرئاسة، فكثيرون منهم كان يستولي
عليهم الخوف. لذلك قال "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من
بعض" (يو5: 44). فمنهم من
طلبوا أن يقتلوه ظلمًا، ولكن آخرين قالوا إنه إنسان الله، ولكن الذي شفى العميان
لا يمكن أن يكون إنسان الله لأنه لم يحفظ السبت، هكذا كان فكرهم متباينًا، فالخاطئ
لا يمكن أن يصنع مثل هذه المعجزات.
أولئك إذن صمتوا؛ لأنهم صنفوا هذا الحدث باعتباره شرًا
من الشرور، واتجهوا ناحية المخالفة الظاهرة للناموس؛ لأنهم لم يقولوا أنه شفى في
السبت، بل "لم يحفظ السبت". بينما اعترف الآخرون أيضًا بالحدث، وإن كان
ذلك على استحياء؛ لأنهم بينما كان يجب عليهم أن يُظهروا كيف أنه لم يحفظ السبت،
اعترفوا أن هذا الأمر من المعجزات، وكان هذا طبيعيًا طالما اعتبروه إنسانًا. لأنه
إن لم يحدث هذا، لكانوا قد دعموا رأيهم بطريقة أخرى بأنه كان سبت وقت أن فعل هذا.
لكن ليس هذا هو رأيهم.
إذن لا أحد
من هؤلاء تجرَّأ أن يقول بوضوح هذا الذي أرادوا أن يقولوه، ولا استطاع واحد منهم
من التعبير عن رأيه الحقيقي بوضوح لكن في صياغة تعبِّر عن الشك. البعض بسبب أنهم
لا يملكون الجرأة، والبعض الآخر بسبب محبتهم لكرسي الرئاسة.
وحدث
انشقاقٌ فيما بينهم. هذا الشقاق، وإن بدأ أولاً يصير في الشعب، إلاَّ أنه انتقل
بعد ذلك فيما بين الرؤساء " بعضهم يقولون أنه صالح وآخرون يقولون لا بل
يضل الشعب" (يو7: 12). هل رأيت كيف غاب الإدراك بالأكثر عن الرؤساء مما أدى إلى انقسامهم على
بعضهم فيما بعد؟ وهم بعد هذا الانشقاق لم يقطع أي فريق منهم برأي حسن، مقتدين
بالفريسيين. لأنهم لو كانوا قد انقسموا تمامًا، للتو كان يمكنهم أن يعرفوا الحق؛
لأن انشقاقًا تامًا كان من الممكن أن يحدث، ولأجل هذا قال الرب: " لا
تظنوا إني جئت لألقي سلامًا على الأرض. ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" (مت10: 34). ويمكننا أن
نؤكد أن هناك اتفاقًا شريرًا، وهناك اختلافًا صالحًا. فالذين بنوا البرج كانوا على
اتفاقٍ فيما بينهم نحو شر ذواتهم، وهؤلاء أيضًا هنا انشقوا دون أن يكون انشقاقهم
لمصلحتهم.
حول قورح
اجتمعوا على الشر، لذلك كان حسنًا أنْ انشقوا على أنفسهم. ويهوذا كان على اتفاق مع
اليهود على الشر. إذن، يوجد انشقاقٌ حسن، ويوجد اتفاق شرير. لذلك قال: " إذا
كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك" (مت5: 29)، فإن كان ضروريًا أن نفصل عضوًا من
أعضائنا إذا ما سبب لنا الشر، أليس بالأولى يكون ضروريًا أن ننفصل عن الأصدقاء
الذين ليس جيدًا أن نكون معهم على اتفاق؟ هكذا لا يكون الاتفاق دائمًا حسنًا،
مثلما لا يكون الشقاق دائمًا شرًا.
إن ما أقوله
لكم اليوم، إنما أقوله لكي نتجنب الشرور ونطلب الصالحات؛ لأننا عندما نقطع عضوًا
من أعضائنا يكون فاسدًا وغير قابل للشفاء، فإننا إنما نفعل ذلك خوفًا على بقية
الجسد حتى لا يصاب بذات الضرر. وإذا فعلنا ذلك، فليس عن احتقار لهذا العضو الفاسد،
ولكن لكي نحافظ على بقية الجسد. إذا كان الأمر هكذا، فكم هو حري بنا أن نطبق هذا
على أولئك الذين يعاشروننا إذا كانت مقاصدهم شريرة؟ بالطبع لسنا في حاجة إلى أن
نؤكد على تقويم هؤلاء إذا كان ذلك في استطاعتنا، حتى لا يتسببوا في أي ضرر لنا،
لذا ينبغي علينا أن نقوم بكل ما من شأنه بلوغ هذا الهدف. لكن إذا بقى هؤلاء على
حالهم دون إصلاح، وأصبحوا مصدر ضرر لنا، عندئذٍ يجب أن نقطعهم ونلقيهم عنا؛ لأن
ذلك يكون مكسبًا عظيمًا لنا في كل الأحوال. لذلك ينصحنا الرسول بولس فيقول: "
انزعوا الخبيث من وسطكم" (1كو5: 13)، وأيضًا: " لم تنوحوا حتى يُرفع من وسطكم الذي
فعل هذا الفعل" (1كو5: 2). لأن معاشرة الناس الأسرار شرٌ عظيم. فالطاعون ليس أسرع
في العدوى، ولا الجرب أكثر تدميرًا للملوثين والمرضى بقدر الشر الناتج عن معاشرة
الناس الأشرار " لا تضلوا. فإن المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة"
(1كو15: 33). والنبي يقول
أيضًا: " ابتعدوا عنهم واعتزلوا" (إر28: 45).
إذن، ليتنا
لا نصادق الأشرار، ولنبتعد عن أبنائهم أيضًا، ولا نعطي أهمية للقرابة ونواميسها أو
التزاماتها، بل بالأكثر جدًا يجب أن نتجنب الأصدقاء، ومعارفهم أيضًا إذا كانوا
أشرارًا؛ لأننا وإن كنا لم نُصَب بعد بأذىً، إلاَّ أننا لن نتمكن من تجنب السمعة
الشريرة التي تلصق بنا طالما كان الذين هم من خارج عائلتنا لا يعرفون حقيقة
حياتنا، بل يحكمون علينا بالنظر إلى مَن نعاشرهم. هذه الأمور أنصح بها النساء
والعذارى؛ لأنه يقول: " معتنين بأمور حسنةٍ قدام جميع الناس" (رو12: 17).
إذن فلنبذل أقصى طاقة حتى لا نكون سبب عثرة للقريب؛ لأن
حياتنا حتى ولو كانت مستقيمة تمامًا، يمكنها أن تدمر الآخرين لو أُعثروا فينا. وهل
يمكن للحياة المستقيمة أن تُعثر أحدًا؟ نعم، لأن معاشرة الذين يحيون في استقامة
لهؤلاء الذين لا يحيون، تخلق سمعةً شريرةً. ولأن القريب لديه ثقة فينا ـ بالنظر
إلى حياتنا المستقيمة ـ لا يرى في معاشرتهم شرًا. إذن، فإن كنا لم نسبب لهم ضررًا
مباشرًا، إلاَّ أننا تسببنا في عثرتهم.
هذا أقوله
للرجال والنساء والعذارى. أترك لضميرهم أن يعرفوا بدقة كم من الشرور تنتج عن هذا
الأمر. أنا لا أتهم أحدًا بالشر أبدًا، ولا أنسب تهمةً لأحد الكاملين في الإيمان،
لكن اعلم عندما يُضار الأخ البسيط في الإيمان من كمالك، عندئذٍ يجب أن نحرص على
الاعتناء بهذا المريض، وحتى لو لم يتضرر ذاك فقط، فقد يُضار الوثني، لذلك أعطى
بولس أمرًا ألاَّ نعثر أحدًا حتى اليهود والوثنيين، وبالأولى أعضاء كنيسة الله
" كونوا بلا عثرة لليهود ولليونانيين ولكنيسة الله" (1كو10: 32). أنا لا أتهم
العذارى بشيء شرير؛ لأني أحب البتولية والمحبة لا تفكر في الشر. إنني أعشق طريقة
الحياة هذه، ولذلك لا أستطيع أن أفكر فيما هو عبث في الحياة. ولكن كيف أقنع هؤلاء
الذين هم من خارج؟ لأنه ينبغي علينا أن نعتني ونحترص حتى لا نسبب عثرة لهؤلاء.
هكذا ليت كل
ما يخصنا يكون منظمًا حتى لا نقدِّم لأحد من غير المؤمنين مبررًا لإدانتنا. وإذا
كان الذين يحيون في استقامةٍ يمجِّدون الله، هكذا يصير من لا يحيون أسبابًا
للتجديف على الله. ليت لا يكون هناك عصاةٌ فيما بيننا، لكن بالأحرى تتألق أعمالنا
لكيما يتمجد أبانا السماوي، ونستمتع نحن بمجده الذي أتمنى أن نناله كلنا بنعمة
ومحبة محب البشر ربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع الآب والروح القدس إلى الأبد
آمين.
[1] ينظر الآباء للإنسان نظرة متكاملة، فهم يرونه
كلاً متكاملاً، لا ينفصل فيه الجسد عن النفس، ولذلك ففي مقابل الأعضاء الخارجية
هناك الأعضاء الداخلية، أو أعضاء النفس. وكما يمارس الإنسان حياته باستخدام
الأعضاء الجسدية، كذلك يمارس أمور الروح بالأعضاء الداخلية للنفس، ولا يقتصر الأمر
على القديس يوحنا ذهبي الفم، بل أن القديس مقاريوس الكبير على وجه التحديد يرى أن
كل عضو من أعضاء الجسد الخارجية يقابله عضو ينسبه إلى النفس، فيقول عظته السابعة: كما أن أعضاء الجسد وهي كثيرة
تدعى إنسانًا واحدًا هكذا النفس لها أعضاء كثيرة وهي: العقل، والضمير، والإرادة،
والأفكار "المشتكية والمحتجة" (رو2 :15) وكل هذه تعتمد على وحدة النفس. إنها
أعضاء النفس، أما النفس فهي واحدة، أي الإنسان الباطن. ولكن كما أن العيون
الخارجية تكشف قدامها، من على بُعد، الأشواك والمهاوى والحفر، وتعطي إنذارًا مقدمًا،
هكذا العقل حينما يكون في يقظة وانتباه، فانه يكشف حيل وخداعات القوة المعادية
ويسبق فيحصن النفس مقدمًا، انه بالحقيقة هو عين النفس. فلنعطي المجد للآب والابن
والروح القدس إلى أبد الآبدين آمين"، راجع
عظات القديس مقاريوس الكبير، أيضًا عظات2و 15و49 ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، المركز
الأرثوذكسى للدراسات الآبائية، الطبعة الرابعة، يناير 2005.
[2] لاحظ عزيزي القارئ رؤية القديس يوحنا ذهبي الفم
المتفردة لحادثة إظلام الشمس عند صلب السيد المسيح له المجد على الصليب، فهو يرى
في المسيح المصلوب منظرًا أكثر بهاءً، تتوارى معه الشمس وتخفي شعاعها أمام نور من
صنع خلاصاً في وسط الأرض كلها، وهو ما تقطع به صلاة الأجبية القبطية في قطع الساعة
التاسعة على لسان اللص المصلوب معه، إذ تقول: "لما أبصر اللص رئيس الحياة
معلقاً قال لولا أن المصلوب معنا إله متجسد ما كانت الشمس أخفت شعاعها ولا الأرض
ماجت مرتعدة"، إن منظر الإله المتجسد الذي ينحني تحت الموت لكي ينجي خليقته
من عبودية العدو، هو منظر يغطي على كل مصادر الضوء، لأنه منظر النور الحقيقي الذي
ينير كل إنسان.
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف
ردحذفالجزء الذى فيه ينفى وراثة الخطية مستشهداً بسفر حزقيال(بغير حقيقة معناه) ، وضعه القس الكاثوليكى الموقوف عن الكهنوت: مينى ، بين صفين من الخطوط الثقيلة جداً بعرض الصفحة كلها، على نظام الهوامش والحواشى، بمعنى أنه حاشية.
بما يعنى أنه رأى شخصى له.
ولكنه عاد فى موضع متقدم ووضع نفس تعليقه هذا بنفس نصه كلمة كلمة ، على نظام كوبى باست ، فى موضع متقدم من نفس تفسير هذا الإصحاح ، وكأنه إزداد جرأة ، فإستغنى عن وضع الخطوط العريضة الثقيلة التى تدل على كونها رأيه الشخصى ، كما فى المرة السابقة.
ونفس هذا الجزء الذى كان بين سطور ثقيلة ، قد تم دسه فى كتب أخرى ، بدون هذه السطور.
وهذا الرأى هو رأيه هو الشخصى ، بدليل أنه فى مواضع أخرى من مجموعته يعلن عن هذا الرأى بكل صراحة بإعتباره رأيه هو ، وذلك بوضع تعليقه منفصلاً أسفل الصفحة ومرقماً بترقيم الملحوظات.
فهذا رأيه الشخصى وقد دسه فى مجموعته فى مواضع كثيرة ، أحياناً بين الهوامش وأحيانا بين السطور ذاتها.
وعشمى فيكم دراسة مجموعة مينى بعين الباحث وليس الناقل ، كما عهدنا فيكم دائماً.
فهى ليست إنجيلاً ، وهو ليس قديساً ، بدليل حرمان الكنيسة الكاثوليكية له -
فى حياته- من ممارسة الكهنوت.