السبت، 5 أبريل 2014

أتؤمن بابن الله


أتؤمن بابن الله  (عظة 59) للقديس يوحنا ذهبي الفم على تفسير انجيل يوحنا
ترجمة د.جورج عوض ابراهيم

”فأخرجوه خارجًا. فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا فوجده وقال له أتؤمن بابن الله. أجاب ذاك وقال مَنْ هو يا سيد لأؤمن به”

(يو9: 34 ـ 36)

 

أُكرِم الذين يكرموننى

      أولئك الذين يتعرضون للشر، ويُشتمون لأجل الحق، ولأجل اعترافهم بالمسيح، هؤلاء يُكرَّمون قبل الجميع. فإذا بذل شخصٌ أمواله لأجل آخر، عندئذٍ يسعى هذا الآخر قبل كل شيء لكي يعوِّضه عن هذه الأموال ويقدم له كل محبته. هكذا الذي يُشتم، فإنه يستحق التكريم. وقد حدث هذا الأمر مع مَن كان أعمى. لقد أخرجه اليهود وطردوه من الهيكل، لكن رب الهيكل وجده. لقد تخلَّص من محكمة الموت وقابل نبع الخلاص. أُهين من أولئك الذين أهانوا المسيح، ولكنه كُرِّم من ملائكة الرب (مثل هذه هي مكافأة الحق). هكذا نحن، إذا احتقرنا الأموال هنا، نجد الدالة هناك. إذا أعطينا هذه الأموال للمساكين، نستريح في السموات، وإذا شُتِمنا من أجل الله، نُكرم هنا في هذه الحياة وفي الآتية أيضًا.

 

الإيمان بابن الله

عندما طُرد الرجل الذى كان أعمى من الهيكل، وجده يسوع. والإنجيلي هنا يُظهر أن المسيح جاء إلى الهيكل لأجل هذا الهدف، أي لكي يقابله. أنتبه إذن للمكافأة التي كافأه المسيحُ بها، إنها قمة الخيرات، فقد أعلن ذاته له لأن مَن كان أعمى لم يكن يعرفه مَن هو، وبهذا فقد وضعه في مصاف التلاميذ. لاحظ أيضًا كيف يصف الإنجيلي ـ بدقة ـ الحوار الذي دار فيما بينهما؛ فعندما قال المسيح: " أتؤمن بابن الله؟"، يقول: " مَن هو يا سيد لأؤمن به"؛ لأنه لم يكن يعرفه بعد، بالرغم من أنه هو الذى شفاه. لأن الذي شُفِيَ، قبل أن يأتي إلى مَن شفاه، كان قد اقتيد من اليهود الأردياء من هنا إلى هناك. ومثل مصارعٍ تعب تعبًا شديدًا في حلبة المصارعة ومِن ثَمَّ فهو يستحق التتويج، قال له: " أتؤمن بابن الله؟"، ماذا يعني هذا؟ بعد معارضته الشديدة لليهود، وبعد كل ما قاله لهم، سأله: "أتؤمن؟" ليس لأنه كان يجهل إنْ كان يؤمن به أم لا، بل لأنه أراد أن يعلن له ذاته ويُبرهن له على أنه يقدِّر إيمانه به تقديرًا شديدًا. وكأن الرجل يقول للرب: شتمني جمع اليهود كثيرًا، ولكني لم أُعرهم اهتمامًا، شيءٌ واحدٌ أهتم به، أنْ أؤمن بك؛ لأن واحدًا يتمم مشيئة الرب أفضل من آلافٍ العصاة (راجع حكمة بن سيراخ 18: 3).

      " أتؤمن بابن الله؟"، كأنه كان حاضرًا، وقَبِلَ كلام اليهود، هكذا يسأله. ففي البدء أخذ المسيح يثير في مَن كان أعمى الشوق إلى معرفته، لأنه لم يسأله: " أتؤمن؟" بشكل عام، لكن تدرج معه بأسئلة متتابعة. ماذا قال الذي شفي؟ "مَنْ هو يا سيد لأؤمن به؟"، والتعبير هنا يكشف عن نفسٍ مشتاقة وراغبة في معرفته، فلقد كانت لهذا الشخص محبة كبيرة للحق. ولأنه لم يكن قد رآه بعد " قال له يسوع قد رأيته والذي يتكلم معك هو هو". في البداية لم يقل له يسوع أنا هو، ولكن بكلام غير مباشر قال: " قد رأيته". ولأنه لم يكن معروفًا لديه بعد، أضاف بكل وضوح: " الذي يتكلم معك هو هو". " فقال أؤمن    يا سيد، وسجد له". لم يقل له أنا هو مَن شفاك، أو أنا الذي قلت لك اذهب واغتسل في بركة سلوام، بل قال: " أتؤمن بابن الله؟". ولكي يؤكد الذي شفي إيمانه سجد له مباشرةً، الأمر الذي فعله قليلون من الذين شفاهم، مثل البُرَّص، وربما شخص آخر، لذلك أظهر (للمولود أعمى الذى شُفى) القوة الإلهية التى نالها، وحتى لا يعتقد أحدٌ إن ما قاله ليس أكثر من مجرد كلام، أضاف الأعمال إلى الأقوال.

 

البصر الروحى والعمى الذهنى

      وعندما سجد له، قال المسيح: " لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون"، وهذا أيضًا ما قاله بولس: " فماذا نقول إنَّ الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر أدركوا البر. البر الذي بالإيمان. ولكن إسرائيل وهو يسعي في أثر ناموس البر لم يدرك ناموس البر" (رو9: 30ـ31). وبقوله: " لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم"، جعله أكثر قوة في إيمانه، بينما استفز أولئك الذين تبعوه وكانوا من الفريسيين. "لدينونةٍ"، قالها لكي يعلن أن هناك عقابًا عظيمًا، وإن مَن أدانوه هم المدانون أصلاً، هؤلاء الذين حكموا عليه كخاطئ هم المدانون. وهنا أنا أقصد نوعين من البَصَر ونوعين من العَمَى: البصر الحسى والذهنى، والعمى الحسى والذهنى[1].

          قال له مَن تبعوه: " ألعلنا نحن أيضًا عميان؟". ومثلما قالوا له في حالة أخرى " أجابوه إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط" (يو8: 33)، هكذا الآن أيضًا يلتفتون فقط للمحسوسات، ويرفضون أن يُقال لهم أنهم عميان، ولكي يبرهن لهم على أنه من الأفضل بالنسبة لهم أن يكونوا عميان، عن أن يكونوا مبصرين، قال: " لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية". وقد قال لهم ذلك لأنهم اعتبروا الأمر مثارًا للسخرية، أقصد النكبة، ولكنه ألقى هذه النكبة على رؤوسهم بقوله: هذا صار لكم عقابًا أشد. لقد نحَّى الأفكار البشرية جانبًا، واقتاد البشر نحو سمو الفكر العجيب. " ولكن الآن تقولون إننا نبصر"، لكنكم لا تبصرون. فما اعتبروه لائقًا بالمديح العظيم أى البصر الجسدي، صار سببًا للعقاب بالنسبة لهم، وبينما عزَّى من كان أعمى فإنه أشار إلى عماهم.



[1] راجع ما قلناه سابقاً عن أعضاء الجسد وأعضاء النفس، وما أوردناه من أقوال رائعة للقديس مقاريوس الكبير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق