الاثنين، 10 فبراير 2014

اليقطينة أم البشر للقديس كيرلس عمود الدين - ترجمة د جورج عوض



تفسيرالإصحاح الرابع لسفر يونان
للقديس كيرلس - د. جورج عوض
(يونان1:4ـ3): ” فَغَمَّ ذلِكَ يُونَانَ غَمًّا شَدِيدًا، فَاغْتَاظَ. وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «آهِ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ هذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي».
24ـ أظهر الله رحمته لأولئك الذين بتوبتهم نجوا من تبعيات غضبه وحيث أنه إكتملت الفترة الزمنية المحددة وكان من المفترض أن تحدث الأمور التي أُعلنت, لكن بسبب أنه لم يحدث شيئ مما أُعلِن إغتم النبي حزنًا ليس طبعًا لأن المدينة أفلتت من الهلاك (لأن هذا يعتبر شر بشري وحسد وحقد لا يتمشي أبدًا مع قديس), لكل لأنه ظن أنهم سوف يعتبرونه كاذباً ومبتذلاً حيث  سبَّب لهم إنزعاجًا وأن ما قاله قد قاله من عندياته وليس حسب المكتوب: "مِن فم الرب" (أر16:23). لكن البعض الآخر يظنون أن النبي غضب لأجل أسباب أخري غير معلنة. لأنهم يقولون هو يعرف أنه عندما يُدعيَّ جميع الأمم, سوف يفقد الشعب الإسرائيلي رجاءه في الله لأن هذا الوقت قد وصل بالفعل إلي نهايته, وكان مغتمًا جدًا وإستولي عليه الضيق لأجل هلاك قومه الذين من دمه. لكن هذا الرأي هو بعيد عن تفكيره, إذ قال بوضوح أنه إرتحل إلي ترشيش وهرب من أداء رسالته لأنه يعرف بدون شك أن الله "رؤوف ورحيم بطئ الغضب وكثير الرحمة ونادم عن الشر" (يونان2:4). ألست أنت الذي أمرت أن أكرز لهؤلاء بهلاكهم؟ وكإنسان بالطبع أظهر أنه ضيق الأفق مؤكدًا بأن هذه الأقوال قد قالها علي أرض اليهود والآن يتمني أن يموت متصرفًا بشدة ضد التدبير لكن الأمر هو خطر وليس جدير بعقل قديس. لأنه لو يستطع أحد أن يؤنب أطباء الأجساد, لو بالتأكيد لدية عقل, حيث يصنعون الأدوية الضرورية للجروح, كيف كان من الممكن أن يصرخ ضد الله الذي يعرف كل شئ ويبتكر دائمًا الشفاء الواجب والحقيقي لأجل ذهننا؟ لأنه طبيب الأرواح فهوأحيانًا بالآلام ومرة أخرى أيضًا بخيرات صلاحه يهدئ وحشية شهواتنا.
(يونان4:4ـ5): ” فَقَالَ الرَّبُّ: «هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ؟».وَخَرَجَ يُونَانُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَجَلَسَ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ، وَصَنَعَ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ مَظَلَّةً وَجَلَسَ تَحْتَهَا فِي الظِّلِّ، حَتَّى يَرَى مَاذَا يَحْدُثُ فِي الْمَدِينَةِ”.
25ـ لم يترك عقل النبي يسترسل ويتعمق في حزنه, بل أحضره مرة ثانية إلي حالته السليمة كما يحدث مع المريض أي إلي حالته الحسنة, أيضًا بالأضافة إلي هذا لأنه حزن أدانه لكي يفيده. لقد سأله "هل إغتظت بالصواب", وهو يؤنبه لأجل حزنه ولأجل أنه لم يدرك هدف القرارات الإلهية. وحيث إنه مرَّت أيام بعدما كان يجب أن يتحقق كل ما أعلنه النبي, والغضب ظلَّ أيضًا بدون أن يهدأ, أدرك أن الله أظهر لهم رحمته ومع ذلك مازال يتتبع الموقف علي أمل تحقيق وعيد الله لأنه ظن أن الله قد أعطاهم تأجيلاً للعقاب لأنهم أرادوا أن يتوبوا, لكن علي أي حال سوف يراقب شيئًا من تبعيات الغضب, لأنه ظن أنهم لم يظهروا ألمًا لتوبة تعادل خطاياهم.
أي ماذا يفيدهم توبة ثلاثة أيام إذ أنهم مثقلون بكل نوع من الدناءة وممسكون بخطايا رهيبة وكثيرة؟ هذه هي إذن المشاعر والأفكار التي كانت مثارة في داخلة, بالطبع إرتحل عن المدينة ولكن ظلَّ مترقبًا ما سوف يحدث لهؤلاء. لأنه ترقب متوقعًا سقوط المدينة ربما بزلزال أو سوف تحرق بالنيران مثل مدينة سدوم. صنع هناك بيتًا لكي يسكن فيه وهذا كان عبارة عن مظلة.
(يونان6:4): ” فَأَعَدَّ الرَّبُّ الإِلهُ يَقْطِينَةً فَارْتَفَعَتْ فَوْقَ يُونَانَ لِتَكُونَ ظِلاُ عَلَى رَأْسِهِ، لِكَيْ يُخَلِّصَهُ مِنْ غَمِّهِ. فَفَرِحَ يُونَانُ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ فَرَحًا عَظِيمًا”.
26ـ الآن أمر الله اليقطينة ـ مثلما أمر الحوت ـ بالطبع بإشارة منه فقط وبإرادته نبتت إذن يقطينة جميلة ومملوءة بالورود وغطت كل مظلته وكأنها حديقة منحت له ظلاً لتخلصه من الغم. وفرح النبي فرحًا عظيمًا كأنها هدية عظيمة وحسنة. لاحظ أيضًا هذا الهوى الذي كان يوجد في ذهنه من جهة البساطة. كان بالطبع حزنه عظيمًا لأن نبوته لم تتحقق لكنه شعر بفرح لا يُوصف لأجل ثمرة من الخضروات وعُشب. العقل أو الذهن البسيط الساذج يسقط بسهولة في الحزن والفرح. وسوف ترى أن حديثي صادق حين تلاحظ سلوك الأطفال الذين مرات كثيرة يحزنون من لا شئ ويبكون لأجل أمور تافهة وأيضًا يفرحون مباشرةً ويصير إنتقالهم من الحزن إلي الفرح, كذلك ينبهرون مرات كثيرة من شئ تافه. هكذا الذهن البسيط يتراجع بسهولة إلي ما يفرحه أو يحزنه مثل الأجساد البشرية التي لا تصطف واقفة بقوة فتتعرض للسقوط من أي دفعة حتى لو كانت ضعيفة.
(يونان7:4ـ8):   ثُمَّ أَعَدَّ اللهُ دُودَةً عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ في الْغَدِ، فَضَرَبَتِ الْيَقْطِينَةَ فَيَبِسَتْ. وَحَدَثَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَنَّ اللهَ أَعَدَّ رِيحًا شَرْقِيَّةً حَارَّةً، فَضَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَى رَأْسِ يُونَانَ فَذَبُلَ. فَطَلَبَ لِنَفْسِهِ الْمَوْتَ، وَقَالَ: «مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي».
27ـ أعد الله حشرة صباحية تُدعي دودة تسقط في الفجر والجو رطب, كما فعل الله نفس الشئ والجو حار حين أعد يقطينة. هكذا أمر الرب اليقطينة والحوت كما رأينا سابقًا, وبالمثل اليقطينة تذبل لأن الدودة ضربتها وهذا الأمر كان غير متوقع بالنسبة للنبي.
وبينما الريح الحارة تضربه كانت الشمس تلق بأشعتها الحارقة عليه ووجد نفسه بدون ظلال في حالة لا تطاق, فإزداد غمه جدًا بسبب هذا الأمر. ووصل إلي شدة الخوف والتذمر لدرجة انه طلب  الموت لنفسه.
(يونان9:4): ” فَقَالَ اللهُ لِيُونَانَ: «هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ؟» فَقَالَ: «اغْتَظْتُ بِالصَّوَابِ حَتَّى الْمَوْتِ».
28ـ لاحظ أيضًا إله الكل الذي بمحبة فائقة للبشر يتصرف, بطريقة ما, بنفوس القديسين البريئة ولا ينقصه شئ من حنان الأب. صنع له ظلاً باليقطينة وفرح النبي بهذا الأمر. ثم بحسب التدبير صار الذبول من دودة, وضربه بالجو الحارق مظهرًا له أن الظل مفيد جدًا, لكي يتألم بالأكثر وهو محروم من أمور حسنة جدًا, ثم يصير حزينًا جدًا لأجل شئ صغير, أقصد اليقطينة, حتى لا يشكو من المحبة الإلهية للبشر حين أراد الله الرحمة والصلاح لمدن عظيمة يقطنها جمع لا يحصي من البشر الساكنين فيها. وسأله بفطنه شديدة "هل إغتظت بالصواب من أجل اليقطينة" أي لأجل ثمرة من الخضروات. والنبي يعترف بأنه أغتاظ وحزن, وهذا الأمر كان بمثابة طريقة لتبرير محبة الله للبشر.
(يونان10:4ـ11): ” فَقَالَ الرَّبُّ: «أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟».
29ـ يا للصلاح الفائق والذي يعلو علي كل عقلٍ! ما هو القول الذي يكفي لتسبيحك, أو أي فم يتفوه بأناشيد الحمد والشكر لمحبتك للبشر ولصلاحك الكلي؟ : "كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا. كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ. لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ" (مز12:103ـ14).
حسنًا لاحظ كيف يُظهِر ليونان أن لا يحزن لأنه كان يجب كقديس أن يسبح الرب. يقول, إن كنت قد حزنت وسقطت في حزن شديد بسبب أن اليقطينة ذبلت والتي نبتت في ليلة وبنت ليلة هلكت, كيف كان من الممكن أن أتجاهل أنا مدينة مكتظة بالبشر  يحيا فيها أثني عشر ألف إنسان الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم ألا تمنح محبة البشر لهؤلاء الذين هم مثل الأطفال في أنهم لم يفعلوا أي خطية, لأن الذي لا يعرف أن يميز يديه, في أي الخطايا سيكون مذنب؟ إنه الآن يذكر الحيوانات ويعتبرها جديرة برحمته, يفعل هذا الأمر مِن صلاحه. لأنه إن كان "الصديق يراعي نفس بهيمته" (أمثال10:12). ما الغرابة في أن خالق الكل نفسه يعتني ويراعي البهائم؟ لأنه هكذا خلّص المسيح الكل باذلاً ذاته فدية للصغير والكبير, للحكيم وغير الحكيم, وللغني وللفقير, لليهودي واليوناني: "الناس والبهائم تخلص يارب. ما أكرم رحمتك يا الله فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون" (مز6:36ـ7), الرب الذي له المجد والقوة مع الآب والروح المحيي كلي القداسة والصلاح إلي أبد الآبدين, آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق