الصوم
عظة للقديس يوحنا ذهبى الفم
عن كيفية
الاستعداد للصوم[1]
ترجمة د. جورج عوض إبراهيم
ينبغى أن يفرح المسيحيون بقدوم
الصوم لأن خيراته كثيرة:
إن
|
اجتماعنا
اليوم مفرح وأكثر بهاءً من الاجتماعات المعتادة، تُرى ما هو سبب ذلك؟ إن مصدر هذا الابتهاج هو الصوم. الصوم
الذى لم يبدأ بعد، ولكننا ننتظره. هذا الصوم جمعنا فى بيت الآب، الصوم أحضركم إلى
حضن الأم. فإن كان انتظاره فقط جلب لنا غيره عظيمة، تخيلوا كم يخلق مجيئه وحضوره وقارًا
وتقوى فينا!! نحن نشبه مدينة كانت
يسودها الفوضى، ولكن عندما علمت
هذه المدينة بأن رئيسًا مهيبًا
ينوى أن يزورها، بدأت فورًا تتأهب لاستقبال هذا الرئيس.
لكن
لا تخافوا مما سمعتم بأن الصوم مثل رئيس مهيب،
لأنه ليس مخيفًا لنا، لكن لجنس الشياطين. إن كان يوجد شخص به شيطان، واجهه بالصوم،
فإنه سيرتعب خوفًا،
وسيظل متحجرًا وأصلد
من الصخر، وسيظهر كأنه مقيد
بقيدٍ. وسيعانى كثيرًا جدًا
من ذلك، عندما يصحب الصوم بالصلاة، إذ يقول
ربنا يسوع المسيح: " هذا
الجنس (الشياطين) لا يخرج
إلاّ بالصلاة والصوم"
(مت 21:17)
إذن،
فطالما أن الصوم يُبِعد أعداء خلاصنا بعيدًا جدًا،
وأيضًا يرعبهم، فعلينا
أن نحبه ونرحب بقدومه، ولا
نخاف منه. وإن كان
ينبغى أن نخاف شيئاً، فعلينا أن نخاف من السُكر والإدمان والإفراط فى الأكل، وليس من الصوم. لأن أكلنا وشربنا يقيد
اليد (عن إعطاء الصدقة)، ويسلمنا عبيدًا وأسرى للطاغية (الشيطان)، كما إلى امرأة شريرة. وبعكس الأكل والشرب، فالصوم يفك قيودنا ويخلّصنا من الطاغية، ويردّنا
إلى حريتنا الأولى.
الصوم يرفع البشر ويقربهم من
الله:
أتريد
أن تعرف كم يزّين الصوم البشر، كم
يحميهم من كل جانب، كم يؤّمن حياتهم؟
أرجوك أن تتأمل النظام الحلو
والجميل فى حياة الرهبان. هؤلاء الذين تركوا ضجه العالم، وصعدوا قمم الجبال، وأقاموا قلاليهم
داخل الصحراء فى الهدوء، وكمثل ميناء هادى، جعلوا الصوم هو صديقهم ورفيقهم مدى
الحياة. وهكذا نرى أن الصوم جعل البشر يصيرون ملائكة، وليس هؤلاء فقط (أى الرهبان)، لكن الذين يمارسونه فى المدن، يصعدهم إلى قمة الفضيلة. هكذا عندما أراد النبيان العظيمان موسى وإيليا أن يقتربا من الله ويتحدثا إليه،
لجئا إلى الصوم، وبمعونة الصوم صارا فى شركة مع الله.
عصيان الأبوين الأولين كان مخالفة لوصية الصوم:
لاحظ أنه من البدء عندما خلق الله الإنسان وضعه مباشرة بين "يدى" الصوم، ذلك الصوم الذى كان كمثل أم حنون ومعلمه صالحة تهتم بخلاصه، لأن الوصية كانت هكذا:
"
من جميع شجر الجنه تأكل أكلاً. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها" (تك16:2ـ17)، كانت هذه الوصية "نوع"
من الصوم، فإن كان الصوم ضروريًا فى الفردوس،
فبالأكثر جداً يكون ضروريًا
خارج الفردوس. وإذا كان الدواء قبل
"الجرح" مفيدًا،
فبالأكثر جداً بعد "الجرح".
كذلك، إن كان "السلاح"
ضرورى لنا، قبلما تبدأ حرب الشهوات الشريرة، بالأكثر جداً بعد اشتعال الحرب، حيث تضرم الشياطين فينا الشهوات، فإننا نحتاج لهذا "السلاح" الذى هو الصوم. لو أدرك آدم
هذا الكلام، لما سمع الكلام الآخر الذى قاله الله: " لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تك19:3)،
لكن بسبب أنه خالف القول الأول، لذلك أتى الموت وما ترتب على ذلك من هموم ومتاعب ومشقات، هكذا أتت
الأشواك والزوان، هكذا أتت العذابات والآلام والحياة البائسة.
الصوم أنقذ أهل نينوى:
إن كنت قد رأيت كيف أن الله لم يُسرّ باحتقارنا
للصوم، فتعلّم
الآن كيف تبتهج، بإكرّام
الصوم. لأنه كما أنه باحتقار الصوم أتت عقوبة الموت،
هكذا أيضًا، عندما نُكرّمه تُرفع العقوبة. ولأن
الله أراد أن يُظهِر لك قوة الصوم، نجده بعد أن أدان آدم على تعديه
وعدم "صومه" كما قلنا، قد جعل الصوم "طريقًا" للسائرين نحو
الموت كى يعودوا مرة أخرى إلى الحياة. وهذا لم يفعله لا باثنين أو ثلاثة أو عشرون من البشر لكن بمدينة كاملة، مدينة
نينوى العظيمة والعجيبة، التى ركعت وتذلّلت بسبب الدمار المزمع أن يصيبها من جراء العقاب الإلهى، فجاء الصوم كمثل قوة رفعتها إلى أعلى، واختطفتها من قبضة
الموت وردتها إلى الحياة. وإذا أردتم دعونا نسمع ما حدث:
قصة يونان وخلاص أهل نينوى:
يقول
الكتاب " وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاى قائلاً: قم أذهب إلى نينوى
المدينة العظيمة ونادى عليها لأنه قد صعد شرهم أمامى" (يون1:1ـ2)
نجد هنا وصفًا للمدينة ـ إذ قال الله عنها المدينة العظيمة ـ لعله بهذا الوصف يؤثر على
يونان لأنه كان يعرف مسبقًا
أنه مزمع أن يهرب. لكن دعونا
نسمع ما أنذر به يونان أهل المدينة: " بعد أربعين يومًا تنقلب المدينة" (يون4:3).
لماذا
تهرب يا يونان ؟
هل تصورت أمامك مصاعب تتوقعها بسبب (توبة المدينة)؟
ألاّ تعرف أن تهديدات
الله بالجحيم كانت لكى لا يقود (الله) أحدًا إلى الجحيم؟.
ولأى سبب منحهم الله فرصة قصيرة؟ نجيب لكى
تعلم أن الغرباء (أهل نينوى)
يستطيعون فى هذه المدة أن
يطفئوا غضبًا عظيمًا، سببته
خطاياهم، وأيضًا لكي نثق نحن ونتيقن من محبة الله للبشر. وحتى لا تيأس أنت يا من فعلت آلاف
الخطايا. لأنه إذا أعطيت الكسول
وغير المبالى، مهلة كبيرة للتوبة، فإنه سوف لا يفعل شيئاً وسوف لا يتصالح مع الله بسبب إهماله وتهاونه، بينما الإنسان النشط
واليقظ لو أعطيته فترة
زمنية قصيرة جدًا سوف يستطيع أن ينعم بغفران خطايا ارتكبها فى سنين عديدة.
ألم
ينكر بطرس المسيح ثلاث مرات؟
وفي المرة الثالثة، ألم يلعن ويحلف أنه لا يعرفه ؟
ألم
يخف من كلام خادمة
صغيرة ومغمورة؟ ماذا إذن؟
هل
احتاج سنين عديدة لكى يتوب ؟
إطلاقًا لكن فى نفس الليلة
سقط
وقام،
جُرح
وشُفى،
مَرضّ
وتعافى.
كيف
وبأى طريقة؟
إنه بكى
وحزن، وهو لم يبكِ
فقط لكن بكى بألم وإنسحاق. لذلك
فإن الإنجيلى لم يقل
بكى لكن قال" بكى بكاءاً مراً" (مت75:26).
انظر، لا
تستطيع أى كلمة أن تصف مدى القوة العظيمة لتلك الدموع، وتطور الأحداث
يظهر قوة هذه الدموع. لأن بعد ذلك السقوط الرهيب ـ أى إنكار
المسيح ـ وبعد هذه الخطية
الكبيرة، أعاده المسيح إلى الكرامة الأولى، وكلّفه
برعاية بالكنيسة، والأهم أنه أظهر لنا كيف أن بطرس إقتنى محبة عظيمة نحو الرب أكثر من كل الرسل، وذلك عندما سأله قائلاً: " يا سمعان بن يونا أتحبنى أكثر من هؤلاء"
(يو15:21). إذن حتى لا تقول إن الله
كان محقًا في أن يغفر
لأهل نينوى، الذين هم غرباء وغير
متعلمين، لأن العبد " الذى لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضُرب قليلاً" (لو48:12)، لذلك قدمت
لك مثال بطرس العبد الذى
يعرف كثيراً جداً إرادة سيده.
أرأيت
كيف ارتفع عاليًا بتوبته؟.
إذن
لا تيأس بسبب خطاياك.
لأن
الأسوأ من الخطية هو أن
تظل فى الخطية،
والأردأ من السقوط هو أن تظل فى السقوط.
لأجل
هذه الحالة يبكى بولس ويحزن،
فهذه
الحالة جديرة بالرثاء،
فهو يقول:
"
لأنى أخاف إذا جئت.. أن يذلنى إلهى عندكم.. إذا جئت أيضاً وأنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا عن النجاسة والزنى
والعهارة التى فعلوها"
(2كو21:12).
واعلموا أن الوقت المناسب جدًا للتوبة هو وقت الصوم.
لكن ليتنا نعود إلى موضوعنا (يونان وأهل نينوى)، عندما سمع النبى يونان كلمات الرب قام : " ليهرب إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب
معهم إلى ترشيش من وجه الرب" (يون3:1).
أين تذهب أيها
الإنسان؟ ألم تسمع النبى يقول:
" أين أذهب
من روحك ومن وجهك أين أهرب" (مز7:139).
هل ستذهب إلى الأرض؟ اسمع
" للرب الأرض وملؤها.
المسكونة وكل الساكنين فيها"
(مز1:24). ربما تقول: أذهب إلى الجحيم؟
" إن صعدت
إلى السموات فأنت هناك. وأن فرشت فى الهاوية فها أنت.. أن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر فهناك أيضاً تهدينى" (مز8:139ـ10).
أم ستقول إلى : " أقاصى البحر" حيث ذهب
يونان النبى؟.
الخطية تؤدى بنا
إلى هذيان عظيم!. لأنه كما أن
الذين يستولى عليهم الإدمان
والسُكر، يجولون بلا وعى هنا وهناك، ولو صادفتهم
ورطه أو أى شئ آخر، يسقطون فجأة، هكذا الذين ينزلقون فى الخطية تستولى عليهم شهوة فعل الشرور
مثل إدمان الخمر، ولا يعرفون ماذا يفعلون، بل يكونون غير مبالين لا بالحاضر ولا بالمستقبل .
اخبرنى يا يونان، هل هربت بعيدًا من
الرب؟ إذن انتظر قليلاً، فمن
الحوادث التى سوف تجرى لك ستعلم كيف أنك لا تستطيع أن تفلت من قبضة البحر،
الذى هو أيضًا عبد لله، يفعل ما يأمره به سيده. وإلاّ فلماذا
عندما نزل النبى إلى السفينة، علتّ
الأمواج جداً؟ ولأن البحر كان مثل ذلك العبد المطيع،
الذى تقابل مع عبد آخر
سرق شئ من سيده
وهربّ، فإنه لا يتوقف عن أن
يزعج من تستروا على العبد السارق
حتى يأخذه ويعيده إلى سيده، هكذا البحر، عندما وجد يونان الهارب وتعرّف عليه،
سبّب اضطرابات كثيرة للبحارة وهدد أنه لن يهدأ حتى يسلّم الملاحون يونان له.
وماذا فعل البحارة
عندما صارت كل هذه الإضطرابات؟
مكتوب: "
خاف الملاحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه وطرحوا الأمتعه التى فى السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم" (يون5:11). لأن
كل الأمتعة كانت بالداخل، أى جسد النبى الذى كان حملاً ثقيلاً
ليس بسبب وزنه المادى لكن بسبب ثقل الخطية. لأنه لا يوجد ما هو أثقل من
الخطية، لذلك يشبهها النبى
زكريا بالرصاص (انظر زكريا 7:5)، بينما داود يصف طبيعتها قائلاً: " لأن آثامى قد طمّت فوق رأسى. كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل" (مز5:38).
والمسيح
يصرخ بقوة للغارقين فى الخطية قائلاً:
" تعالوا إلىّ يا
جميع المتعبين وثقيلى الأحمال وأنا أريحكم" (مت28:11).
إذن الخطية ثّقلت السفينة فكانت
على وشك الغرق، ويونان كان نائماً
فى نوم عميق. أخذه النوم الثقيل ليس نتيجة فرحه، ولكن
بسبب حزنه، ليس خمولاً أو كسلاً ولكن بسبب الضيق.
لأن الخدام الصالحين يشعرون بخطاياهم بسرعة، الأمر
الذى عاناه يونان، حيث فعل
الخطية وأدرك بعد ذلك شرها.
لأن الخطية تُولد أولاً، ثم بعد
ذلك تجلب الآلام المخيفة باستمرار إلى النفس التى ولدتها، على عكس القانون الطبيعى لولادتنا. فنحن عندما نولد تتوقف آلام الولادة عند الأم فى الحال،
لكن الخطية إذ تُولد، تسبّب
بعد ذلك إضطرابًا وآلامًا للذهن الذى ولدها.
ثم،
ماذا فعل القبطان؟ اقترب من يونان وقال له: " قم أصرخ إلى إلهك عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك" (يون6:1). لقد فهم
من خبرته أن هذه الأمواج لم تكن عادية، وأيضًا بأنها كانت ضربة مرسلة من الله.
كيف
أن اضطراب البحر لم تصلح معه الوسائل البشرية؟! وكيف أن تصرفات
القائد لإنقاذ الموقف كانت بلا
فائدة؟!، هذا لأن الحالة كانت تحتاج إلى قبطان أعظم، أى إلى ذلك الذى يقود الكون كله. الحالة تحتاج إلى معونة من فوق. لذلك تركوا الشراع والحبال وكل شئ، وأوقفوا التجديف، رفعوا أيديهم نحو السماء وترَّجوا الله ليخلّصهم. وعندما لم يحدث شئ، ألقوا قرعة، ووقعت القرعة على المسئول. وهؤلاء بالرغم من
أن قرعتهم أظهرت يونان كمسئول، لم يلقوه فى البحر. وبالرغم من أن الضجة والإضطراب العظيم كانا مستمرين، فإنهم أقاموا له محكمة فى السفينة وكأن الهدوء قد حلّ، وأعطوه فرصة ليتكلم وطلبوا منه أن يدافع عن نفسه وحققوا معه
بدقة، وكأنهم سيعطون حسابًا عما سيقرره.
اسمعهم
إذن، كيف يفحصون كل شئ، كما يحدث
فى المحكمة.
أى
عمل تعمل؟
من
أين أتيت؟
أين
تذهب؟
ما
هى بلدك وإلى أى أمه تنتمى؟
وبينما
أدانه البحر بصوت عالٍ، والقرعة أظهرته أنه المسئول، إلاّ أن الملاّحين
لم يتأثروا بصراخ البحر، ولا
بالشهادة القوية التى أظهرتها القرعة ولم يتخذوا أى قرار. لكن فعلوا مثلما يحدث فى المحكمة، حيث المتهمون حاضرون والشهود موجودون والمحققون قد أنهوا اجراءاتهم، إلاّ أن القضاة لا يقررون إلاّ بعد أن يعترف المتهم نفسه
بذنبه. هكذا فعل الملاحون فبالرغم
من أنهم غرباء وغير متعلمين إلاّ انهم حفظوا الإجراء الذى يتم فى المحكمة وتصرفوا هكذا بالرغم من الخوف العظيم، والأمواج
العالية جداً، والإضطراب العظيم المحيط بهم.
من أين إذن، يا أحبائى أتت هذه العناية العظيمة؟
من
تدبير الله. لأن الله دبر الأمور
هكذا لكى يتعلم النبى،
أن يكون محبًا ورؤوفًا، وكأن الله
يقول له: تشبّه يا يونان بالملاحين، بالناس غير المتعلمين الذين لا يحتقرون نفسًا واحدة،
الذين لم يهملوا إنسانًا
واحداً الذى هو أنت، وأنت تهمل مدينة بأكملها، فيها آلاف الناس، تتركها تُدِمر،
بينما كان هناك أمور كثيرة تتوقف عليك. هؤلاء عندما اكتشفوا عِلة
الشرور التى أصابتهم، لم يندفعوا لكى يدينوك، أما أنت
فبدون أن يكون عندك شئ
ضد أهل نينوى، تريد أن تهلكهم. وبينما أنا آمرك بأن تذهب إليهم وبالكرازة تقودهم إلى الخلاص، فإنك لم تطع،
أما الملاّحون، فرغم
أنهم لم يأخذوا أمرًا من أحد، قد فعلوا ما بوسعهم محاولين
أن ينقذونك أنت الذى كان ينبغى أن تُعاقب.
إذن، بعد إدانه البحر (بأمواجه)، وبعد وقوع القرعة التى أظهرته مذنبًا، وبعد إقراره بذنبه وإعترافه بهربه، فإن الملاحين
أيضًا لم يريدوا أن
يؤذوا النبى، بل فعلوا كل شئ،
حتى لا يسلموه إلى البحر الهائج. لكن البحر لم يتركه أو بالأحرى الله لم يتركه، لأنه كما أراد أن يهذبه بواسطة الملاحين هكذا أيضًا فعل بواسطة الحوت. لذلك
عندما سمعوا " خذونى وأطرحونى فى البحر فيسكن البحر عنكم لأننى عالم أنه
بسببى هذا النوء العظيم عليكم" (يون12:1)،
حاولوا أن يأتوا بالسفينة إلى البر لكن الأمواج أعاقتهم.
وأنت
|
يا من تسمعنى، كما رأيت النبى وهو يهرب، اسمعه أيضًا وهو يصلى داخل بطن الحوت. ففى هروبه عانى وتألم كإنسان عادى، بينما فى بطن الحوت أظهر أنه نبى. فمثلما
أخذه البحر، ووضعه فى بطن الحوت،
كمثل زنزانه، وحُفظ سليمًا
من أجل الرب، هكذا الحوت، الأشد قسوة من
الأمواج، الذى يبلع ويميت،
أنقذه وقاده إلى المدينة. فالبحر والحوت فعلا أفعالاً تتعارض مع النواميس الطبيعية، لكى يتعلم النبى من كل هذا.
هكذا،
وصل يونان سليماً إلى
المدينة، وأعلن للساكنين قرار
الله كأنه يقرأ رسالة ملوكية تهدد بعقاب، وقال لهم: " بعد أربعين يوماً تنقلب المدينة" (يون4:3).
أرأيتم كيف أن أولئك عندما سمعوا يونان صدقوة واهتموا بالأمر وأخذوا جميعًا
طريقًا واحدًا، هو طريق
الصوم: الرجال والنساء، العبيد والسادة، الرؤساء والمرؤوسين،
الأولاد والعجائز، وحتى حيواناتهم غير العاقلة لم يُستثنوا من هذا الفعل. فى كل مكان لبسوا ملابس الحداد،
وفى كل مكان كان رماد وحزن ونحيب ونواح. حتى الملك أيضًا الذى كان يلبس
التاج نزل من عرشه الملوكى وتغطى بمسح وجلس على الرماد، ألقى الرماد على رأسه
وأنقذ المدينة من الخطر. أرأيت شيئًا
أغرب من هذا!. فالمسوح ظهرت أنها أعظم من الملابس الملوكية. لأن ما لم تحققه الملابس
الملوكية، حققته المسوح. وما لم يحققه التاج، حققه الرماد.
ألم أقل لك كيف أننا لا ينبغى أن نخاف من الصوم بل نخاف من السُكر والإدمان والإفراط فى الأكل؟ لأن السُكر ومحبة الأكل قد زعزعتا مدينة
نينوى فى الوقت التى كانت تقف شامخة، أما الصوم فحفظها واقفه شامخة لا يُمسها
سوء فى الوقت التى كانت على وشك الدمار والسقوط.
بالصوم تتم المعجزات:
بالصوم دخل دانيال جُب الأسود ونجح فى أن يخرج من هناك كما
لو كان قد خالط حملانًا هادئة.
لأنه بالرغم من أن الوحوش كانت تزأر
غضبًا، فإنها لم تستطع أن تمس الطعام المعُد لها والذى وُضع أمامها (أى دانيال)،
وبالرغم من طبيعتهم المتوحشة وكذلك الجوع
أيضًا الذي كان يحرّك ويستثير هذه الأسود،
إلا أنهم احترموا هذا "الطعام" ولم يلتهموه،
وكأن قوة أخرى كانت داخل الجب قامت بترويض هذه الأسود الجائعة لدرجة أنها
لم تستطع أن تقترب من جسد النبى.
أيضًا بالصوم دخل الثلاث فتيه إلى أتون النار، وإذ ظلوا ساعات طويلة داخل النار، خرجوا من الأتون أحياء
بأجساد تلمع أكثر من النار.
لماذا
لم تؤثر فيهم النار رغم أنها كانت نارًا حقيقية متقدة؟!
ولماذا لم تتأثر أجسادهم
بالنار رغم أن أجسادهم كانت أجسادًا بشرية؟! أتعرفون
لماذا ؟
اسألوا الصوم سوف يجيبكم، وسوف يحل لكم هذا اللغز.
ألم يكن شيئًا عجيبًا أن تهاجم النار الجسد وينتصر الجسد عليها؟.
أرأيت
هذه المعركة الغريبة؟
أرأيت
كم هو مدهش هذا النصر؟
عظيم هو الصوم،
وعليك أن تستقبله بأحضان مفتوحة.
لماذا؟
لأن الصوم ينقذ فى الأتون،
ويحمى فى جُب الأسود،
ويُبعد
الشياطين،
ويغير
قرار الله،
ويُوقف
إثارة الشهوات،
ويعيدنا
إلى الحرية،
ويُهدئ أفكارنا،
إذن كيف لا يكون جنونًا مُطبقًا أن نهرب من الصوم ونخاف منه،
وهو الذى يغدق علينا خيرات كثيرة؟
الصوم يفيد كثيراً صحتنا الجسدية
يزعم بعض الأشخاص
أن الصوم يُضعف جسدنا لذا نهرب منه ونخافه، غير أنه مكتوب أنه عندما يفنى الإنسان الخارجى فإن الإنسان الداخلى (النفس) يتجدد يوماً بعد يوم
(2كو16:4). وإذا
أردت أن تفحص الأمر من جهة أخرى، فسوف تتحقق أن الصوم هو أصل الصحة الجسدية. وإن كنت لا تصدق
أقوالى، اسأل
الأطباء وهم
سوف يؤكدون لك بوضوح هذا،. فالذين يأكلون قليلاً يكونون فى صحة وعافية، بينما الذين يحيون حياة الخمول ويأكلون
بنهم شديد يصابون بأمراض متنوعة مثل: آلام الأرجل وصداع
الرأس والسكتات الدماغية والسُل والاستسقاء والالتهابات والدمامل وسيل من الأمراض
الأخرى.
طريقة الحياة هذه هى مثل مجرى مياه ملوث تنبع من منبع دنس وتدمر صحة الجسد وأيضًا عفة النفس.
مباهج الأكل تبطل خيرات الصوم:
إن الأكل الزائد والسُكر فى اليوم السابق للصوم أو بعد اليوم الأخير
للصوم هو أمر غير مقبول. كذلك الاحتفاليات الكثيرة تبطل خيرات الصوم.
إذن
|
ليتنا لا نخاف الصوم الذى يخلّصنا من شرور كثيرة.
أقول هذا لأننى
أرى أناسًا
كثيرين
كما لو كانوا سيسلمون أنفسهم إلى وحش مفترس، هكذا يترددون ويتقهقرون عند مجىء الصوم ويدمرون
ذواتهم بالسُكر والأكل الزائد، لذلك أنصحكم حتى لا تُضَيِّعوا الفائدة
التى تنتج من الصوم بالشراهة والسُكر. وكل الذين يعانون من آلام المعدة، عندما يشربون الدواء،
لن يستفيدوا منه،
لأن المعدة الملوءة بالأكل والشراب سوف تعيق فاعلية الدواء. بالضبط كما يأمر الأطباء مرضاهم بالنوم
مساءً وبالصوم حتى يستفيدوا من
العلاج بالأدوية. نفس الأمر يصير مع الصوم. إذا كنت اليوم (السابق للصوم) تأكل بشراهة وتسكر وغدًا تأخذ "دواء
الصوم"
فإن هذا الدواء سيكون غير مفيد، لأنك سوف تجرد الدواء (أى الصوم) من فاعليته بإدمانك
للخمر حتى الثُمالة.
لكن لو احتفظت
بجسدك خفيفاً (غير مثقل بالأكل) وذلك بابتعادك
عن الشراهة، ثم بعد
ذلك تأخذ "الدواء"
بعقلٍ
صافٍ،
سوف تتطهر كثيرًا
من خطاياك القديمة.
إذن
|
ليتنا لا نستقبل الصوم بالسُكر ولا حتى بعد انتهائه
نفعل ذلك، حتى لا يحدث مثلما يحدث لمريض صار متعافيًا وبينما هو يحاول أن ينتصب واقفًا، يقفز
مسرعًا فيسقط
ثانية إلى أسفل
ويصير فى
حالة أسوأ. هذا يحدث مع نفوسنا عندما تكون فى الحالتين، سواء فى بداية الصوم أو
نهايته،
إذ بالسُكر
نفقد الاستنارة
التى منحها لنا الصوم. ومثلما يفعل كل الذين يريدون أن يصارعوا الوحوش فإنهم يدافعون
عن أجسادهم بوسائل مختلفة فى مواجهة هذه الوحوش، هكذا أرى للأسف أن كثيرين من البشر الذين يستقبلون الصوم، كما لو كانوا سوف يصارعون وحشًا، فيتسلحون بالأكل المفرط لمواجهته، وأخيرًا
إذ تمتلئ بطونهم بالطعام ويظلم عقلهم يُقبِلون
على الصوم
بارتباك كثير مع أن الصوم يقود إلى الهدوء والسكينة.
وإذا سألتك:
لأى سبب تُسرع اليوم لتغتسل؟ سترد علىّ لكى استقبل الصوم بجسد نظيف، وإذا سألتك ثانية: لأى سبب أنت تسكر؟
أيضاً سوف ترد علىّ: بسبب أننى سوف أدخل فى فترة صوم. إذن أليس من غير المعقول أن تستقبل
هذا الصوم
الجميل من جهة بجسد نظيف، ومن جهة أخرى بنفس دنسة صارت مظلمة بالسكر؟!!.
DCDCC
ليت الله يعطينا استعدادًا مباركًا
لنقدس له صومًا مقبولاً
لنحصد خيرات الصوم
بنعمة ربنا يسوع المسيح
الذى له المجد
مع أبيه الصالح
والروح القدس
أمين.
[1] عظة ألقاها
القديس يوحنا ذهبي الفم، في الاستعداد للصوم الأربعيني المقدس، فى إحدة السنوات
بين 386ـ397م، قبل سيامته بطريركًا للقسطنطينية.والنص موجود فىPG49, 305-314 ، ΕΠΕ30, 184-207.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق