السبت، 17 سبتمبر 2011

القدر و العناية الإلهية / يوحنا ذهبى الفم 2


القدر و العناية الإلهية (2 )
للقديس يوحنا ذهبى الفم


عناية
ٌ إلهية، وليس قدرًا مكتوبًا

هكذا نحن يا أحبائي يجب علينا ألاَّ نتَّهم الله بأنه هو السبب عندما نتعرض للقلق أو الاضطراب. إن إلقاء اللوم على الله لا يُعَدُّ دواءٌ للجرح، بل يخلق جرحًا جديدًا إضافةً للقديم. ليتنا نطرد الاعتقاد بأن هناك قوة فوق العناية الإلهية تسبب كل هذا، أي القَدَر. لأن فكرة القضاء والقَدَر مملوءة بالتجديف والتطاول على الله. إذ أن الإضطراب الحقيقي يوجد داخل فكرنا المضطرب نتيجة القلق والفوضى الداخلية، ولذلك فهذا الفكر لن يستفيد حتى من التناسق الجميل لأمور الحياة.
أما القول بأن الظروف الخارجية هي السبب وراء كل ما يصيبنا من أضرار، فإنني أجيب على ذلك مبرهنا بأمثلة من الماضي والحاضر:
هناك كثيرون يعانون الفقر ولكنهم لا يتوقفون عن شكر الله، في حين أن الذين لا يصيبهم أي مكروه يستمرون في التجني على عناية الله. وكم ممن يحتملون العذاب شاكرين وهم يقضون حياتهم في السجن، بينما الذين يعيشون أحرارًا وآمنين لا يفعلون ذلك. إن حالة نفوسنا وفكرنا هي السبب في ما نشعر به وليست طبيعة الأشياء في حد ذاتها. ولذلك فإذا ما اعتنينا بنفوسنا فسوف لا نعيش في اضطرابٍ وتخبطٍ، ولن نعيش في الشر حتى لو سارت بنا ظروف الحياة إلى فوق أو هبطت بنا إلى أسفل.

لنتمثل ببولس الرسول الذي لم يُهزم أمام الضيق والاضطهاد
أخبرني: لماذا يشكر بولس الرسول الله دائما؟ لقد عاش هذا الرسول حياةً صالحةً وبارةً بين الناس، ومَارس حياة الفضيلة على الدوام ولكنه عانى متاعب جمة، من النادر أن يعاني مثلها أحد. وبينما كان يرى آخرين منغمسين في الخطيئة ومتمتعين بخيرات هذا العالم، فإنه كان يشكر الله لأجل شدائده التي كانت تحث الآخرين على أن يتمثلوا به. عليكم إذًا أن تتشبهوا ببولس الرسول.
فعندما ترى الخاطئ يفرح ويفتخر وينتصر على أعدائه وينتقم لنفسه من الذين يحزنونه، وتندهش عندما تراه لم يُصَب بأي أذىً، بل ينال احترام وتملق الآخرين، وعندما تكون أنت على العكس من ذلك تُبلى بمصائب وكوارث، فلا تعتقد أنك مُحتقر ومرذول، بل تأمَّل بولس الذي كان يواجه ظروفًا عصيبة، ولكنه استطاع أن يقوِّم نفسه ويستعيد شجاعته النفسية، ولم يُهزم من الألم ولا من الضيق.
ولذلك فعندما ترى شخصًا يعيش بتقوى وتعفف ولكنه يُحتقر من الناس بسبب ضعفه فيجب عليك أن تطوِّبه حتى لو كان مقيدًا بسلاسل. إن مثل هذا الشخص يُعتبر طوباوي حتى لو أحرقوا جسده. أما إذا رأيت إنسانًا يحيا في العصيان والخطايا وينال كرامة من الناس إذ يجلس على عرش ملكي متوجًا بتاج ولابسًا ثياب الملوك ويتسلط على العالم، فمثل هذا تبكي عليه وتحزن. إذ ما الفائدة في أن يكون الإنسان غنيًا بالأموال ولكنه أفقر الجميع في الفضيلة؟ ماذا سيجني من مكاسب من سلطته العظيمة في حين أنه لا يستطيع أن يسيطر على ذاته وشهواتها؟
إن المتاعب والآلام تبدو ثقيلة وغير محتملة لمن يعيش حياةً سهلةً ومترفةً، لذلك فإن أغنى الأغنياء عندما يعاني من بعض الأمراض فإنه يعانى كثيرًا جدًا، أمَّا الفقير الذي يعوقه فقره عن التمتع بأي شيء، فإنه يتعزى حتى من الاحتياج نفسه.
وأتساءل: كيف يجب أن نحزن على شخص يعاني من مرض جسدي عندما يكون هذا الشخص مترفًا ونفسه غير نقية ـ هذه النفس التي لا يوجد شيء يساوي قدرها ولا أغلى منها ـ وكيف نطوب هذا الشخص لأجل كرامة مؤقتة أو لأجل امتلاكه قليل من المال أو لأي شيء آخر مما تبقى هنا ويهجرنا مع هذه الحياة؟!!: أرجوكم لا تقعوا في هذا الخطأ، هذه الأشياء (الكرامة العالمية، المال ..) تجلب علينا القلق وتسبب لنا الإرتباك. وهذا هو ما يجعل الكثيرين يتطاولون على الله ويتهمونه، ولهذه الأسباب أيضًا يظنون أنه لا توجد عناية إلهية في العالم.
لو كان الذين يطرحون معى مثل هذا السؤال قد عرفوا أنه لا يوجد في الحياة الحاضرة شيء ذي قيمة سوى الفضيلة، لا الغنى، ولا المال، ولا الصحة، ولا السلطة، ولو عرفوا أنه لا شيء شرير في الحياة الحاضرة سوى الدنس والخبث وانحراف النفس، لو عرفوا ذلك لما ظنوا أنه لا توجد عناية إلهية في العالم، ولا عاشوا في حزن وضيق ولا طوَّبوا أولئك الذين يستحقون الحزن ولا حزنوا على الذين يستحقون التطويب ولا حسبوا البشر مثل الحيوانات. إنك عندما تطوِّب الناس لأجل ضخامة أجسامهم أو لأجل موائدهم الغنية بالأطعمة أو لأنهم يستمتعون بالاستغراق في نوم عميق، عندئذ لن يكون هناك إلاَّ حقيقة واحدة تنتج عن ذلك، ألا وهي أنك تحسب البشر كأنهم حيوانات غير عاقلة؛ لأن هذه الأمور تملكها الحيوانات غير العاقلة. وكثيرًا ما يُستغنى عن الجياد عندما تصاب بالكسل نتيجة تناولها طعامًا زائدًا. فإذا كان هذا الضرر يحدث لحيوانات غير عاقلة تُقيَّمُ جودتها على أساس قوة أجسامها، فكم يكون الضرر الذي يلحق بالإنسان الذي لا يُقدَّر على أساس مدى تقدم نفسه وارتقائها؟!

هناك تعليق واحد:

  1. نشكرك من اجل هذا العمل
    و نتمني ان تنشر قريبا بقية المقالات للقديس يوحنا ذهبي الفم عن القدر و العناية الالهية لانه موضوع يهمني القراءة فيه

    ردحذف